صدى الشام _ ثائر الزعزوع/
منذ سنوات بدأ مصطلح الطاقة السلبية و الذي يحمل معانٍ عديدة بالانتشار بطريقة مذهلة في أوساط المثقفين، ثم تحول شيئاً فشيئاً إلى مصطلح يستخدمه الكبار والصغار، للتعبير عن إحباط يتعرضون له، أو شعور غريب ينتابهم فجأة أو إحساسهم تجاه أحد الأشخاص الذي يحمل تلك الطاقة السلبية وهو قادر على بثها في المحيط، فليس أسهل من أن تقول “إن فلاناً لديه طاقة سلبية” وقد يكون هذا سبباً لقطع علاقتك به أو على الأقل التخفيف منها، والأمر نفسه بالنسبة للطاقة الإيجابية فهناك أشخاص طاقتهم إيجابية وقادرون على بث الإيجابية في محيطهم، لكن المصطلحين في حالتنا السورية بحاجة إلى منظار دقيق لتشخيصه فنحن نحمل كلا الطاقتين في دواخلنا، دون أن نتحكم بهما أو نستطيع تغييرهما، ويرتبط نوع تلك الطاقة ما بين سلبية أو إيجابية بحسب الحالة التي نمر بها والمرتبطة بدورها بما يحدث على الأرض، حتى لو كنا في أقاصي الدنيا، فما يحدث على الأرض السورية قادر على التأثير فينا، وعلى قلب مزاجنا وحالة الطاقة لدينا في كل مرة، وقد نبدو الآن جميعاً نمر بحالة طاقة سلبية، ويمكن رصد ذلك من خلال الإحباط الذي يعتري كتاباتنا لا على مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، ولكن حتى الكتابات الصحفية أو التحليل السياسي، هناك ميل واضح للسلبية في حياتنا العامة وفي تفاصيل حياتنا الصغيرة، فنحن نحمل ما بتنا نسميه في بعض كتاباتنا بـ “القضية السورية” وهو بلا شك أمر كبير وخطير في الآن نفسه، فنحن لسنا قادرين على تقديم “فتاوى” جاهزة حول كيفية الوصول إلى حل لتلك القضية، بل وحتى شرح أبعادها وتداخلاتها وتاريخها المثقل بتفاصيل ينوء كاهلنا بحملها بدءاً بثورة سلمية تغني للحرية وصولاً إلى افتراض مشاريع ومخططات جهنمية، مروراً طبعاً برايات وأعلام وشعارات، كلها غريبة علينا وعلى حياتنا، فكيف يمكن إذاً التصرف بإيجابية أو محاولة استخراج طاقة إيجابية من ذواتنا المشبعة بالخيبة والخذلان، بل والخيانات المتلاحقة، لكن…
يبدو اللجوء إلى حل وسط مثل ذلك الذي اخترناه هو أمر مناسب، أقصد أن نجمع الطاقتين معاً، وأن نتعود التعايش مع واقعنا الجديد السلبي/إيجابي في الوقت نفسه، ولعلنا نتطور لاحقاً ليكون لدينا طاقة خاصة بنا، لا تشبه تلك الطاقة التي حملها الفلسطينيون طيلة سبعة عقود، وظلوا بفضلها متوقدين حماسة وغضباً، هي الطاقة السورية المتقلبة، فأنت تستطيع أن تمنح محدثك طاقة سلبية من خلال حديثك عن ثورة الكرامة التي خلصت السوريين من عقود الذل والاستبداد، حين هتفوا في مواجهة الدبابات والقناصات: “الشعب بدو حرية”.. حدثه عن القاشوش، وأغنية الثورة، حدثه عن اعتصام الساعة، حدثه عن درعا البلد، عن دير الزور، عن كفرنبل، عن حلب، عن مظاهرة ساحة العاصي، عن باسل شحادة، وعن جميع أولئك الذين رسموا وكتبوا وغنوا.. واستشهدوا.. حدثوا عن الجيش الحر، عن الشباب الرائعين الذين كانوا روح الثورة..
ثم انهمر على محدثك بطاقة سلبية غير مسبوقة وحدثه عن أولئك الذين وقفوا ضد الشعب في ثورته وفضلوا البقاء تحت ذل الحذاء العسكري، ورفعوا بنادقهم في وجوه إخوتهم وأبناء بلدهم فقتلوهم، وحدثه عن أولئك “المجاهدين” الذين اندسوا في المشهد وحولوا الثورة من ثورة حرية وكرامة إلى “ثورة إسلامية”، ولا مانع أن تذكر له خذلان العالم، وكيف وقف في وجه الثورة وأيد الديكتاتور القاتل الذي لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً… ستلاحظ بأن المستمع إليك تغير لونه وربما بدأ يبكي حزناً على حالتك وحالة بلدك، وقبل أن تودعه جرب أن تقول له إن الثورة سوف تنتصر، لأنها ثورة شعب وليست عصابات إرهابية، وليست مشاريع ظلامية، ولن يستمر الاستبداد طال الزمن أم قصر… حين سيرى في عينيك بعض الأمل قد يسترد شيئاً من تلك الطاقة الإيجابية التي منحته إياها في البداية.
تلك التفاصيل ليست سوى جزء يسير يجعل الواحد منا غير مستقر على حالة، وقد نستحق دراسة علمية لاحقة ليرى العلماء تأثير التراب على البشر، فسوريا ذلك التراب وتلك الجغرافيا المتنوعة مرتبطة فينا، لم نستطع ولن نستطيع أن نواصل حياتنا دون أن نتأثر بما يمر فيها، كل ذرة تراب تعادل ذرة في دواخلنا، وهذا الكلام ليس إنشائياً أو عاطفياً، لكنه حقيقة تنتظر العلم أن يثبتها، تنتظر العلم ليقول إنك قد تخرج من الأرض لكن لا يمكن أن تخرج الأرض منك، فأنت مسكون بها ولذلك فإن لم تكن بخير فلن تكون أنت أيضاً بخير، أحذية الغرباء التي وطأتها وطأت روحك سواء أكنت قريباً أم بعيداً، دماء شهدائها التي توغلت إلى أعماقها اختلطت بدمائك، هم أخوتك، ولن تستطيع نسيان وجوههم، لن تستطيع نسيان أصواتهم، وأحلامهم…
أوائل شهر آب الفائت سكنتنا جميعاً طاقة إيجابية غير مسبوقة، رفعنا أصواتنا عالياً نغني، كان الثوار ينتصرون، كان نصرهم احتفال فرح لا نهائياً، كانت حلب ترسم ملامح جديدة لوجوهنا، وقتها حدثنا أولئك الذين سألونا عن الانتصار، نسينا كل شيء، وقلنا لهم ستفعل حلب المعجزات، لم تمر أيام حتى عادت لنا سلبيتنا، لم نعد أولئك الأشخاص أنفسهم، انكسرنا، شعرنا بالضياع، قلنا لأولئك الذين سألونا: العالم يقتلنا.. لم يفهمنا أحد، ولن يفهمنا أحد… وسنظل ننتظر حلب كي تنهض من جديد، كي تطرد الغزاة الواقفين على أبوابها، سننتظر حلب كي تنقذنا من ضياعنا من خيبتنا من هزيمتنا، ننتظر حلب كي تنتثصر، وتفتح أبوابها للشمس…
صدى الشام موقع يهتم بما وراء الحدث