الرئيسية / رأي / هذه أنا..بلا أقنعة

هذه أنا..بلا أقنعة

ميساء شقير/ غالية شاهين – خاص لصدى الشام

 

لطالما أجبر الخوف السوريين على الاختباء خلف النوافذ والستائر، خارج المدن والقرى، خلف الحدود وخلف البحار بعيداً عن أعين وأيدي نظام الأسد الفاشي، سعياً للوصول إلى أمانهم الشخصي. لكنهم وإن حصلوا عليه، قد يختبئون مرة أخرى خلف الأقنعة أو الأسماء المستعارة خوفاًعلى من تركوه هناك بين فكّي الوحوش البشرية التي حكمت سوريا أربعة وخمسين عاماً.

لم يكن الخروج من مملكة الخوف “سوريا” كافياً بالنسبة لي لأكون حرة في التعبير عن نفسي، خاصة عندما بدأت الكتابة الصحفية والعمل في هذا المجال الذي اعتبره نظام الأسد الساقط أحد أهم أعدائه وسلاحاً خطراً موجهاً إليه.

الاختباء كان هو الحل مرّة أخرى، في محاولة لحماية عائلتي التي بقيت في مرمى مخالبه.

اليوم، بتّ أستطيع أن أخلع قناعي وأُظهر وجهي الآخر الذي طالما أرهقني إخفاؤه.

بتّ أستطيع أن أقول أنني ارتديت اسم “غالية شاهين” منذ 2014، لأخفي به اسمي الحقيقي، ميساء جميل شقير، وأنني سورية من مواليد محافظة السويداء، أحمل شهادة الهندسة الزراعية كما شهادة الأدب الإنكليزي من جامعة دمشق. امتلكتني الثورة السورية منذ انطلاقها في آذار 2011 وانتميت إليها بكل ما أستطيع، وهو ما كان ، من بين أسباب كثيرة، سبباً لملاحقتي وعائلتي، مما دفعني لأغادر سوريا نهاية 2013، متنقلة بين محطات كثيرة، آخرها ألمانيا حيث أقيم منذ 2015.

كانت تركيّا هي محطتي الأولى بعد خروجي من سوريا، وقد عشت فيها متنقلة بين عدة مدن آخرها اسطنبول، حيث بدأت مرحلة جديدة من حياتي اكتشفت فيها رغبة وموهبة دفينة بالكتابة والتحرير، لأنضم إلى أسرة صحيفة “صدى الشام” السورية المعارضة للنظام، والتي شكلت مع غيرها من صحف ووسائل إعلامية، ظاهرة الإعلام البديل الذي انصب اهتمامه على الحدث السوري والتغطية الواسعة لأخبار مختلف المدن والمحافظات. وقد كان معظم هذه الصحف يوزّع ورقياً في الشمال السوري بشكل واسع وفي بقية المدن بنسب توزيع متفاوتة.

بدأت العمل في “صدى الشام” كإدارية لعدة أشهر، اتضحت خلالها قدرتي على التحرير وتنسيق الجريدة، لأنتقل، بدعم سخيّ من الأستاذ الصحفي عبسي سميسم، من المجال الإداري إلى قسم التحرير، ثم إلى سكريتاريا التحرير، حيث بدأ اسم “غالية شاهين” بالظهور على صفحات “صدى الشام” كسكرتيرة تحرير.

بعد انتقالي من تركيا إلى ألمانيا تابعت العمل في “صدى الشام”، لكن خطوة أخرى نقلتني للكتابة في موقع وجريدة “العربي الجديد”، في قسم الرأي بشكل رئيسي، إضافة إلى مواد متنوعة في أقسام المجتمع والمنوعات وصفحة جاليات.

“أم مهيار تصنع خبزاً برائحة الوطن في غربتها”، ديسمبر 2014، كانت أول مادة صحفية أنشرها باسم “غالية شاهين” في “العربي الجديد” بمساعدة كريمة من الأستاد معن البيّاري، الذي وافق على النشر باسم مستعار وبلا صورة شخصية وبتعريف بسيط مشّرف: “صحفية من أسرة العربي الجديد”.

تتابعت المقالات في “صدى الشام” و”العربي الجديد” لسنوات كنت خلالها أعزّي نفسي بأنني سأستطيع يوماً ما (كنت أظنه أبعد بكثير) أن أعلن عن اسمي وأسمع رأي الأصدقاء بما أكتب وكذلك انتقاد القرّاء. وقد حدث أن شاركت سنة 2016 بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة، وترشّحت مقالتي “نعم، كنت خائفة” للمرحلة النهائية مع مقالين آخرين من بين 170 مقالاً مشاركاً، وطُلب مني تسجيل مقطع فيديو ليذاع في الحفل ضمن فيديوهات الصحفيين الثلاثة الذين وصلوا لهذه المرحلة، كما تمت دعوتي لحضور حفل توزيع الجوائز في بيروت. لكنه الخوف مرّة أخرى منعني من السفر إلى لبنان لأنه لم يكن بإمكان أحد حينها أن يضمن سلامتي عند دخول مطار بيروت المُسيطر عليه من قِبل حزب الله، وأنا المطلوبة لأربعة فروع أمنية في سوريا، إضافة إلى أنني لم أكن مستعدة لأعلان شخصيتي واسمي الحقيقيين، فكان الحل أن أرسل تسجيلاً صوتياً بلا فيديو، سمعته أثناء متابعتي الحفل على الإنترنت في ألمانيا، بينما كنت أبكي وحيدة في الشارع لإدراكي أنني في بلاد لا يعرفني فيها أحد، وصوتي يُسمع في بلاد العرب جميعاً، لكن لا أحد يعرف أنني صاحبته.

خلال هذه السنوات حاولت بضع مرات أن أنشر مقالات تحمل توقيعي باسمي الصريح، في “العربي الجديد” وموقع “جيرون” و”رواق ميسلون”، لكنها لم تتجاوز بضع مقالات كان ثمة حزن خفيّ يهاجمني عند نشرها لأحساسي بأن كاتبتها، ميساء شقير، ليس لها تاريخ معلن، ولا سيرة صحفية ذاتيّة تشيد بها.

خلال السنوات الماضية دارت نقاشات وجدالات كثيرة بيني وبين “غالية شاهين” تطلب مني فيها أن أطلق سراحها وأُخرجها إلى الضوء، لكن عجزي عن ذلك بسبب الخوف، ربما المبالغ به، على عائلتي في سوريا أصابها شيئاً فشيئاً بالاكتئاب الذي قاد إلى صمتٍ يمزّقني بضجيجه الذي لا يهدأ. صمتت غالية مند فترة وتوارت في أعماقي البعيدة، لأصمت أنا ويبدأ الذبول بالنيل مني.

لكن ما حدث في اليوم العظيم، 08/12/ 2024، استطاع أن يعيد إشعال الرماد في داخلي، كما في دواخل كل السوريين، لينطلق الضوء ويغمرنا وليتسرب فيوقظ غالية النائمة منذ مدة ولتبدأ من جديد إلحاحها على الخروج.

مر ما يزيد على الثلاثة أشهر وأنا أحاول تأجيل الإعلان احتراماً لفرح السوريين ولأحزانهم التي لا تتحمل أيّ مزاودة من أيّ نوع، وهو ما قد يوصف به هذا الإعلان، لكنني في الحقيقة لا أرغب إلا بإطلاق صوتي مرة أخرى والسماح لوجهي الآخر بالظهور والحضور، علّني أستعيد صوت غالية، صوتي، وأعود لأكثر ما أرغب في عمله؛ الكتابة.

شاهد أيضاً

المساواة أم العدالة.. أيهما يحقق التوازن الحقيقي بين الجنسين؟

ميسون محمد في عصرنا الحديث، أصبحت المساواة بين الجنسين شعاراً يتردد كثيراً في كل مكان، …

الوجه المظلم للتكنولوجيا الرقمية.. الشائعات والتضليل في منصات (السوشال ميديا) وتأثيرها المدمّر على اللاجئين السوريين

ميسون محمد – محامية وكاتبة صحفية أحدثت الثورة العلمية الرقمية للوسائل والأدوات التكنولوجية الحديثة تغييراً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *