عبد القادر عبد اللي
الناشط هو إنسان سياسي لا يكتفي بالاحتجاج على موقف سياسي ما، بل يقوم بما هو أبعد من ذلك بتنظيم هذا الاحتجاج. ومن ناحية أخرى يمكن أن يؤيد الناشطون موقفاً ما للحكومة، ويروجون له من أجل حشد التأييد. ولكن التأييد عندما يبلغ حالة الشطط، ويصل إلى درجة الاعتداء لفظياً أو جسدياً على معارضيه يخرج العمل من كونه نشاطاً، والذين يقومون به من كونهم نشطاء، ويصبحون “شبيحة”.
بالمناسبة، عبارة “ناشط حقوقي” أو “ناشط إنساني” هي لعبة لفظية لا تختلف عن “ناشط سياسي”، ولكنها حيلة ابتكرها المتذاكون من أجل النفاد من تهمة العمل السياسي التي يعاقب عليها كل طاغية. ومن هذه التنويعات “ناشط إعلامي” وهذا فرضه واقع الحصار الإعلامي على الوضع السوري من أجل إيصال بعض مما يجري إلى الخارج. ولعل هذا الأمر خاص بسورية فقط، وليس له أي شبيه في العالم كله…
بدأت كلمة شبيحة بمعنى ممارسي التهريب من أبناء أسرة الأسد، ولكن بعد أن استساغها “المقاتلون” من أجل حماية الطاغية المندوب غير السامي لجملة من الاحتلالات، ودخلت سجلات الأمم المتحدة ووثائقها، أصبحت تعني “من يعتدي لفظياً أو جسدياً على المخالف له بالرأي”، وخاصة من خلال هتاف: “شبيحة للأبد كرمال عيونك يا أسد”… لو أخضعنا النشطاء السوريين إلى هذا التعريف فكم هي النسبة التي تنفذ هذه الوصمة؟
بعد هذه المقدمة الطويلة سأدخل صلب الموضوع.
أعمل في الكتابة الصحفية بالشأن التركي، وطلب مني بعض الصحفيين رأياً حول هذا الشأن يفرض عليّ قراءة كل ما يقع تحت عيني له علاقة بتركيا. إليكم هذه العينيات: “أعلن ناشطون بأن الحكومة التركية ستلغي قريباً تأشيرة الدخول التي فُرضت مؤخراً على السوريين عند قدومهم من بلد ثالث”، عينة أخرى: “يفسر ناشطون إزالة الألغام بين الحدود التركية والسورية بأنها استعدادات من أجل دخول القوات البرية التركية إلى سورية”…
لا أريد أن أتحدث عما يشاع عن فرص العمل، والرعاية الصحية، والدراسة، والأمور الأخرى العديدة… فتعدادها فقط يمكن ألا تتسع له جريدة…
“الناشط” الذي صرّح للموقع الإخباري عن قرب إلغاء تأشيرة الدخول المفروضة مؤخراً من الممكن أنه يحمل شهادة دكتوراه معدة على جهاز طباعة ليزري بدقة عالية، فصدق أنه دكتوراً، أو لعله خضع لدورة في الإعلام مدتها خمسة عشر يوماً درّسه فيها ابن عمه الذي تدبر الدورة من أجل أن “ينفعه”، وحصل على وثيقة بخضوعه الدورة، لأنه لا يجيد القراءة والكتابة، فلو كان يجيدها لعرف ماذا تعني عبارة “بلد ثالث” على سبيل المثال… ولعرف المقصود بالبلدين الأول والثاني… طبعاً لا أريد شرح “منطقة الشنغن” وما يترتب على تركيا عند انضمامها إلى هذه المنطقة بعد أشهر قليلة… فهذا موضوع آخر أيضاً…
فالناشط “الشامل” يعرف ما يدور في مجلس الأمن القومي التركي قبل أن يجتمع، ويعرف ما يدور بخلد الوزير الفلاني قبل أن يدور بخلده… وهذه الحالة أكثر ما يشتهر بها السوريون…
“الناشط الإعلامي” صفة محدودة بالزمان والمكان معاً، وهي خاصة بسورية التي تحتلها المافيات والعصابات… وهذا لا ينطبق على تركيا، ففي تركيا وزراء يجيبون على أسئلة الصحفيين، وصحفيون لا يقبلون بأن يفرض عليهم عناصر مخابرات معينين الأسئلة، وكثيراً ما يُحرج الوزراء وزعماء الأحزاب بأسئلة الصحفيين. وهناك أكثر من هذا بكثير، فللمخابرات السورية مواقعها الإخبارية في تركيا على سبيل المثال: “Oda tv”، فأغلبية أخبار تركيا تنقلها سانا من هذا الموقع الإخباري. وكذلك الأمر للمخابرات الروسية والإيرانية، ولهذه الأجهزة أيضاً عملاء وضباط بصفة صحافيين يكتبون بأسمائهم الحقيقية ما تقوله سانا وفارس وإن كان بمهنية أعلى بقليل من موقع المخابرات السورية، وحتى إنهم في أكثر الأحيان يكتبون ما تخجل سانا وفارس من قوله، لتنقله فيما بعد عنهم… والعاملون في هذه المواقع جميعاً يجلسون في المقاهي والحانات، ويتجولون دون أن يعترضهم أحد…
سيقول البعض: ولكن المنظمات العالمية تقول إن هناك تضييق على الصحفيين الأتراك… نعم، هناك تضييق على بعض الصحفيين في تركيا، ويقوم القضاء بهذا الأمر. ولكن هؤلاء يمكن أن يحيلوا ملفاتهم في حال صدور حكم ظالم بحقهم إلى محاكم حقوق الإنسان الأوربية، وفي حال حصولهم على حكم فالحكومة التركية مجبرة على تنفيذه، وقد دفعت الحكومة التركية في كثير من الأحيان تعويضات لبعض من عاقبتهم المحاكم. وبالمناسبة، هناك كثير من الأحداث الحالية التي تنسب إلى ما يجري في الصراع بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني محالة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوربية، ومنها ما صدر فيه أحكام، ومنها ما لم يصدر بعد..
إمبراطور الصحافة التركية “آيضن ضوغان” أقسم على إسقاط الحكومة التركية بشكل علني، وما زالت صحفه تعمل، وتطبع ملايين النسخ، وتلفزاته تبث على مدار اليوم دون أي انقطاع من إسطنبول وأنقرة… وهو يقاضي الحكومة التركية وتقاضيه…
نعم، لقد خرج “الناشطون” السوريون من سورية، ولكن غالبيتهم حملت معها النظام القمعي الذي اعتادت عليه على مدى خمسين سنة. والغريب بالأمر أن الجميع مسرور من هؤلاء….
تركيا في إعلام الممانعة لا تختلف نهائياً عن تركيا في إعلام “الناشطين”…