عمّار الأحمد
الحربُ كرٌّ وفرٌّ. هي جولات وتغيّرات مستمرّة. يسببها إغلاق الأفق وحبّ الحياة. عاصمة الثورة لم تستسلم، ولكن بشرها يموتون من قلة الماء والطعام والذخيرة. عامان ومحاصرها يقتات منها وهي صامدة وتدحره عن أسوارها.
ربما ستتعالى تحليلات التقسيم، وقد يكون الموضوع مطروحاً على الطاولة، ولكن الحقيقة تقول أن المافيا تعبت كذلك، وتريد حلاً تقدّمه لمواليها كي يجددوا العهد والطاعة، ويقدموا أولادهم لإله الحرب الشره مجدداً، فكان خياره هذه الصفقة.
من ادّعى وصلاً بحمص، وأقصد المعارضة، فإن كذبها لمعروف في أحياء حمص قبل الحصار وأثناء الحصار وفي القصير وتل كلخ والزارة والحبل طويل. هؤلاء هم من يتحمّل مسؤولية ترك عاصمة الثورة لإله الحرب. تلك المعارضة لم تفعل شيئاً سوى إصدار شهادات نكبة للمدن الثائرة. بوضوح نقول هنا: إن المعارضة هي سبب الخسارة بينما الثوار قدموا أكثر مما يمكن لشعب أن يقدم على وجه البسيطة منذ بداية الثورة وإلى الآن.
هل حمص تدخل مرحلة التقسيم فعلاً؟ وهل بعد البلدات المنكوبة والانتهاء من الانتخابات الرئاسية هناك تقسيم قادم، أو مفاوضات قادمة، وكانت حمص شرطاً لذلك؟! أيضاً لا شيء واضح لهذا الاعتبار. قطعاً تشديد الخناق الكامل، هو سبب مركزي، وكذلك تسهيل النظام للصفقة، والتي تسمح بإخراج السلاح الخفيف وبعض المتوسط، والجدية في تطبيق الاتفاق.
التقسيم وفي حال كان مطروحاً من السلطة كي تتفادى الخسارة الكلية، فإنه لا يمكن للمعارضة، وقد تدمّرت كل المدن الثائرة أن تربح الدمار. التقسيم ليس هو الحل ربما فقط يريده النظام، كي يدمّر الثورة بصراعات قادتها وهذا لن يتحقق؛ أي أن ما يطرح من تقسيم للبلاد، إلى ثلاث دول كذلك، لن يكون مطروحاً على الطاولة رغم أن الألسن تلهج به كثيراً. والسبب أن الثورة شعبية، وستستمر إلى أن تنهي النظام ودعاة التقسيم كذلك.
وكي لا ننسى فإن حمص تختزن كل مراحل الثورة؛ فهي من خرج بالسلمية، ومن جابهت حرب النظام بالسلمية أولاً، وحين أفشلها النظام كانت العسكرة ثانياً. وهي من شهد أسوأ تجارب المعارضة وهزالها، فلم يكن بها تنظيم، وسادت العمل العسكري والمدني الفوضى المخيفة، وحدثت إنفلاتات طائفية، دفع إليها النظام والإخوان المسلمين وتيارات جهادية كذلك. حمص هذه قدمت ألاف الشهداء لتحرر نفسها ولتحرر سورية كذلك.
حمص مدمّرة بالكامل، يستعيدها النظام كما أخذ القصير كمدينة مدمّرة، وكذلك بقية البلدات، فأيّ تحرّر هذا ستعلنه دولة المافيا في الأيام القادمة؟! إنها مدينة بلا أحياء وبلا بشر وأغلب مساحاتها مقابر. حمص هذه كيفما يممت وجهك فيها سترى المقاتلين يخوضون حرباً فيها؛ سترى ذلك حالما سترسمها من جديد عبر خيال مسرحي أو سينمائي قادم لا محالة أو سواه؛ وسيحكي ذلك من سيبقى حياً، وكان شاهداً على عاصمة الثورة.
المقاتل الذي يخرج بسلاحه لا يخرج كي يسلمه بل كي يستأنف قتاله مجدداً؛ ولكن هل الأمر ممكن وقد ترك مدينته؟ قطعاً الأمر ممكن، فهو خرج بسلاحه ولم يخرج مكسوراً محطماً للإعدام الميداني أو لتقديم الاعتذار من النظام. من سيخرج غداً سيخوض غمار الحرب مجدّداً من منطقة أخرى. هو يودّع هذه الأيام حواري الأساطير، حيث عاش لعامين محاصراً جائعاً محارباً صابراً.
سيدخل النظام مدينة حمص في حال سرت الصفقة، وستسري كما يبدو، فالنظام يريدها لحاجات تجديد الرئاسة، ولزراعة الوهم لدى مناصريه بأنه قوي، ويستعيد المدن. هل ستبدأ مرحلة إعمارها مثلاً؟ وهل سيعود لها أهلوها؟ وهل سيتم إجلاء طائفة معينة كما أشيع قبل أكثر من عام حينما أُحْرِقَت السّجلّات العقارية؟ كل ذلك لا أظنه وارد. وهو كله كلام مرسل على عواهنه. حمص لن يأخذها النظام ضمن صفقة التقسيم، لأن التقسيم ذاته غير ممكن.
الثورة التي تركت المعارضة والجماعات الجهادية تلعب بها، وآخرها الجبهة الإسلامية، يفترض أن تعدّ من قصة الجهادية. فهي الوصفة الكاملة للدمار الكامل للثورة، ولكلّ عمل ثوري جديد. وبما يخصُّ المعارضة يفترض إسقاطها كلية، فهي بسياساتها الرديئة والعاجزة من أخرّ انتصار الثورة، ولا تزال. الجهادية يجب إقصاؤها، لأن الثورة وجدت دونها، وحاربت، وحررت الشعب دونها، وحالما وجدت فقط ساهمت في تشويه الثورة وإعطاء الحجج للنظام لتشويهها، ومارست حكماً سمته شرعياً قتلت فيه أبناء الثورة قبل الآخرين، ولن تتوانى في القتل الذي مارسته من قبل، داعش والنصرة وأحرار الشام وسوها. هي ثورة مضادة ولمصلحة النظام وضد الثورة الشعبية وأهدافها.
الثورة يفترض بقياداتها الأوائل التفكير بكيفية استعادة الحاضنة الشعبية مجدداً؛ فالنظام ليس بحوزته مشروع للإصلاح، وإن وجد فلن يكون خارج سياق الفساد والنهب، وهو ما سيجدد الثورة في كل مدينة سورية، هذا إن قلنا أنّه يمكن للسكان العودة إلى حمص أو القصير أو سواهما. أي أن الاستعادة ستكون في المناطق التي بقيت الثورة تحتفظ بجزء من السكان، وربما هناك ضرورة للتفكير بدور جديد للحاضنة التي هاجرت كذلك، بما يوضح أن الثورة شعبية، وضد نظام شمولي.
أسوأ ما يلاحظ مؤخراً سيطرة الجبهة الإسلامية على جبهات القتال. وهو دليل مباشر على تحكّم سعودي بتلك الكتائب، وبالتالي إلحاق الثورة بالصراع السني الشيعي الجاري بين السعودية وإيران، ومن خلفهما الصراعات الدولية بين روسيا وأمريكا. حمص ربما، وبسبب كل ذلك أُخذت نحو الصفقة، ولكن وكما قلنا فإن السبب المركزي داخلي بامتياز. ففي حمص سجلت انتصارات الثورة وإخفاقات المعارضة وجرائم النظام. فهل يعي أهل الثورة مشكلاتها وأي منقلب فعلته بها المعارضة، وتستعيد ذاتها برؤية وبسياسات ثورية ووطنية؟! هنا بداية الحل، وبداية تفويت الزمن المنقضي بإطالة عمر النظام وباستطالة عمر الثورة.
الحمامصة والسوريون قدّموا كلَّ الممكن، ويقع على الثورة أن تستنهض نفسها، وتحاصر النظام والمعارضة والجهاديات، وتعمل من أجل تجديد ذاتها بأفقٍ أنّ الثورة للكل السوريين، وستكون دولتها القادمة لهذا الكل. لسنا في معرض الوهم نسير، بل في تفاصيل الثورة نفكّر، والتي لا بد من استعادة السير فيها وحراثتها مجدداً وتنظيفها من المعارضة أولاً والجهاديات ثانياً ومن التبعية ثالثاُ ومن الفوضى رابعاً. إذا من وقائع عاصمة الثورة والانسحاب، لا بد من الإمعان في هاجس تجديد الثورة. وهذا هو الممكن الوحيد.