الرئيسية / منوعات / منوع / من سيحمل المشاعل؟

من سيحمل المشاعل؟

غالية شاهين

الساحات ما زالت
هناك..وأحلام الأنقياء ما زالت تحوم بين شبابيك البيوت السورية الباقية.. لكن
الفرح القادم حتما لن يجد من يحمل مشاعله ويرقص في الساحات.

في الأشهر الأولى
من الثورة، كنا في جلساتنا السرية نتناقش ونختلف حول الطريقة التي سنحتفل بها
بسقوط الطاغية وكسر قيد البلاد، كنا نوقن أن ذلك اليوم قادم لا محالة، ويجب علينا
التحضير للاحتفال والانطلاق في سوريتنا الجديدة.

أحد الأصدقاء بدأ
فعلا بتجهيز المشعل الذي قرر أن يطلق نيرانه يوم الفرج ويبقيه مشتعلا لشهر كامل
على مدار أربع وعشرين ساعة في اليوم، وآخر أجل سفره لزيارة أخيه في الخليج العربي
خوفا من أن يسقط النظام في غيابه.

الصديق الأول
اعتقله فرع المخابرات العسكرية قبل أن يتمم صناعة مشعله، وأعاده شهيدا تحت التعذيب،
ومنع أهله حتى من إشعال شمعة على روحه، أما الصديق الثاني فقد انتظر سنتين كاملتين
دون أن يزور أخيه، لكنه زار المعتقل مرتين، ليقرر بعد معجزة خروجه الثاني من السجن
أن يسافر، لكنه غير وجهته إلى تركيا فالسويد.

آلاف غيبتهم فروع
الأمن، ومئات الآلاف غيبهم البحث عن الأمن في مكان آخر..ولم يبق في قريتي من سيحمل
المشعل.

هؤلاء هم الثوار
السوريون الذين كان حضورهم يملأ البلاد بروح الثورة الوقادة، ويشعل الساحات
والشوارع بأصواتهم العالية الصادحة رغم الرصاص، هم ذاتهم من أصبح غيابهم وجع
الثورة، ثورتهم، كما ملأ صمتهم سماء مدنهم المنكوبة.

حين ينظر أي منا
اليوم نظرة سريعة وخاطفة على حجم ما نزفته قريته أو مدينته فقط، من شباب الثورة،
سيدرك ببساطة أن البلاد أفرغت من نبضها، لتموت ببطء.

غادر دم البلاد
أوردتها، وسار في شرايين أوطان بديلة جديدة، نابضا في البداية، ومصرا على أنه سيعود
محملا بالحياة: “هي بضعة أشهر أو سنوات ستمر، لكننا سنعود لنضخ النسغ في
أشجارنا التي تركناها هناك، وستورق من جديد”. لكن الزمن قاتل، والمسافات
الحقيقية الفاصلة بينهم وبين قلوبهم هناك تتضاعف يوما بعد يوم، وتتخطى كل معايير
القياس بالأمتار أو الأميال.

الراحلون لا
يعودون، فالحياة الجديدة لكل منهم ستستنزف كل ما بقي من الحلم، وستستبدل هموم
البلاد بهموم أصغر بمقياس الوطن، لكنها كبيرة بمقياس البقاء والاستمرار.

لم يكن ما حدث
صدفة، ومن السذاجة أن نقول أن تطور الأحداث هو فقط ما ساهم بنزيف البلاد لخيرة
شبابها والذين كانوا الأمل في إعادة البناء بعد كل هذا الخراب. ما حصل كان مدروسا
وبعناية، وساهم بتنفيذه العالم كله.

ليس هؤلاء من
شريحة “الشعب المفيد” لـ”سورية المفيدة”، فكان يجب أن يرحلوا،
إما إلى القبور أو المعتقلات، أو بأحسن الحالات، وربما أسوأها، إلى الخارج.ومن
استعصى قلبه على الرحيل، مازال يقتات حزن البلاد على من
فقدت، ويشرب حتى الثمالة تفاصيل الوجع اليومي الذي يكبل روحه ويفقدها القدرة على
الفرح الذي سيأتي ولو طال الزمن.

لا ملامة على أحد،
فمن هدّم منزله خرج ليبحث عن سقف آمن لأولاده، ومن شهد المجازر والاغتصابات خرج
ليحمي من يستطيع حمايتهم، ومن هُدد بالموت واعتقل ليذوق طعم الذل والعذاب، وفقد
فيما بعد ثقته بأنه قادر على إتمام ما بدأه من ثورة حقيقية، خرج ليعيد ترميم ذاته
المهشمة علّه يسترجع بعضا من نفسه ليقدمه لاحقا حين يستعيد ثورته. لكن الزمن قاتل،
والبعد يفرض حساباته الجديدة دون إذن.

وحدها الشوارع
اليوم تذكر هدير أصوات وأغنيات رددها الثوار فيها، لكنها تحنو على ركام المنازل
وتهمس لها كي تنام.

يقول التاريخ أننا
سننتصر، ولو بعد حين. ويقول أن الشعب الذي عرف طعم الحرية ممزوجا بمرارة الفقد
ومعطرا برائحة الشهداء، لن يعود إلى القيد ثانية. يقول التاريخ أن الساحات ستحتفل
بالانتصار ..لكنني فقط أتساءل: من سيحمل المشاعل؟

شاهد أيضاً

تصنيف الجواز السوري لعام ٢٠٢٥

نزيه حيدر – دمشق يعتبر تصنيف الجوازات في العالم مؤشر لمدى قدرة حاملي هذا الجواز …

الحرية تدخل الجامعات السورية والطلبة يتطلعون لمستقبل مختلف

تمارا عبود – دمشق في الخامس عشر من كانون الأول 2024، فتحت الجامعات السورية بواباتها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *