حوار: قصي أسعد
للمرة الثانية، بعد أن وصلت روايتها “حبل سري”
لترشيحات القائمة الطويلة لجائزة البوكر عام 2011، يظهر مجدداً اسم الروائية السورية
مها حسن، ضمن القائمة ذاتها لهذا العام عن روايتها “الروايات” الصادرة عن
دار التنوير عام 2014، بعد نيل الأخيرة اهتمام نقاد الرواية العربية في انتهاج الكاتبة
أسلوباً سردياً مميزاً، يُعرف حديثاً بدمية ماتريوشكا الروسية. وهذه الطريقة السردية،
مبدؤها تداخل القصص والأحداث في النسيج القصصي الواحد. فالرواية الكبيرة تخفي رواية
أصغر منها وترتبط بغيرها وتتفرع بتفاصيل أخرى، لتلتقي أخيراً بحبكة واحدة، فيصطف بهذا
الأسلوب السردي شخوص وعوالم مها حسن في قصصها الثلاث المستقلة، التي تجمعها روح الفكرة
ويفرقها موضوعها، ضمن رواية واحدة أسمتها “الروايات”.
في حوارنا
مع الكاتبة مها حسن سألناها فأجابت:
في “الروايات” لا اسم ثابت في شخصياتك، قد
يظن القارئ أنه تاه معك للحظة فتعيديه للرواية في برهة لتقولي أنا هنا، ما الذي يدفع
القارئ ليتابع معك؟
أتعامل مع قارئ ذكي، لا أخشى أن يفقد خط الرواية في تتبعه رغم اختلاط الأسماء،
وهذه تقنية موجودة لدي في أعمال سابقة، ففي روايتي (تراتيل العدم) ثبتُّ ملحقاً في
آخر الرواية، بأسماء الشخصيات، لكثرتها.
أنا معتادة على كتابة عسيرة، والرواية
بالنسبة لي، تنادي قارئها المتخذ لقرار القراءة، لا للاكتفاء بمتعة القراءة، بل للّعب
مع الحكاية والشخصيات. وحتى الآن، كانت تجربتي مع هذا النوع من القراء ثمينة، ولهذا
أعتقد أن هكذا نوع من الكتابة، يتطلب نوعاً متمكّناً من القراء.
بالنسبة للقارئ الكسول، فليذهب إلى روايات سهلة إن رغب. أما القارئ الذي يأتي
إلى كتبي، فسرعان ما يتحول إلى شريك وصديق، من خلال انغماسه في لعبتي السردية.
من أين تخلق الشخصية الروائية عند مها حسن؟
تحدثتُ في مقدمة روايتي الأخيرة “الروايات” كيف ألتقط شخصياتي مما
حولي، فأنا أحيا كالصياد الذي يخرج يومياً بحثاً عن رزقه. أنا أعيش وجودياً على الكتابة،
لذلك ثمة روائية تجلس في رأسي، تتجول معي في كل الأمكنة، تتلصص على العالم، وتأخذ الشخصيات
لتطهوها في مطبخي الخاص، فتعيد العمل عليها عبر المخيلة أولاً، وعبر ما يتلاءم منها
مع حكايتي. وهكذا تتولد على دفعات، أثناء الكتابة، وأثناء إعادة الكتابة.
في رواياتك،
أشرتي أكثر من مرة إلى أنّ خيال المرأة في الوصف يعجز عنه الرجل، لتنحازي بذلك لمفهوم
الأدب النسوي، فيما يعارضك البعض بقوله “قلمي لا يفرز هرمونات مؤنثة فقط”.
ما رأيك؟
لا أجد تعارضاً في الرأيين. بالعموم، أنا ضد الكليشات والأقوال الثابتة؛ ضد
ما يسمى بالأدب النسائي، وضد التقسيمات الحادة للإبداع.
ولكنني منحازة إلى عوالم النساء. وسبق وقلت في روايتي “حبل سري”،
أن مستقبل الكتابة الروائية للمرأة. السبب لا يتعلق بالكاتبة نفسها، بل بالموضوعات.
لا يزال الاشتغال على عوالم المرأة قليلاً وأسمح لنفسي بالقول بأنه اشتغال سطحي غالباً.
لم تخض الرواية العربية عميقاً في عوالم النساء، وهذا لا علاقة له بجندرة الأدب. وأظن
أن الرجال أيضاً، لو امتلكوا حساسية ما، يستطيعون التعبير عن عوالم النساء، وهناك تجارب
ملفتة في كتابة الرجال عن عوالم المرأة.
كلٌ يتلمس الحداثة في الرواية من زاويته وتكوينه. ولكل
كاتب مفهومه للحداثة. فما هي رؤيتك للحداثة في الرواية؟
لا أشغل نفسي بهذه التسميات. حين أكتب، أستغرق تماماً في شخوصي وحكاياتي،
وأنفصل عن العالم، وخاصة عن المدرسية والمقولات. كما أعتقد أن الحداثة هي دائماً اللحاق
بالتكوين البشري المعقّد. وكلما تمكن الأدب من رصد الخريطة الإنسانية المعقدة، بتناقضاتها
المستحيلة الفهم بالنسبة للعلوم والنقد المدرسي، كلما اقترب من مدّ البشر بوسائل خلاص،
لا تساعدهم فيها المناحي الأخرى التي ابتكرتها الحداثة.
أغرقتي القارئ في عالم مسحور، عزلتيه في غرفته عن واقعه
الحسي، لتظهري فجأة وتصدميه بجمل مباشرة عن واقع الثورة وزخم مظاهرات القاهرة، ما الذي
وددت إيصاله؟
لا أعتقد أنني توقفت عند الثورة والمظاهرات، إلاّ بشكل عابر كان يرتبط باللحظة
التاريخية. إذ أن وصول بطلتي إلى القاهرة، في هذا التوقيت، لا يمكن فيه تجاهل الشارع.
فكانت تلك التوصيفات جزءاً من المشاهدات التي وقعت لأليس.. لم تكن لدي أية رسالة، سوى
الإخلاص للحظة.
كيف تنظرين إلى الأحداث الكبيرة التي مر بها الوطن
العربي وهل أنت مع مصطلح (الربيع العربي)؟
ربما أنتمي إلى مجموعة رومانسية تفتقد قليلاً إلى العقلانية الصارمة، لهذا
لا أزال متشبثة بحلم الثورات، ولا أستطيع أن أدير ظهري لأحلام الذين قضوا من أجلنا،
الذين حلموا بالكرامة والعدالة والحرية.
مصطلح الربيع العربي بحد ذاته، لست
متفقة معه، أعتقد أن تسميته لم تنسجم مع الواقع الدموي اللاحق، ولا مع النتائج الكارثية
التي خذلتنا، حتى نحن الذين وقفنا مع الثورات.
أستعمل عادة مفردة الثورة، ولا أزال
أشعر أنها التوصيف الأدق للاحتجاجات التي قامت بها الشعوب الحالمة.
كيف ترين الوضع السياسي في سوريا حالياً، ومتى بمقدورك
العودة والكتابة هناك؟
الوضع في سوريا كارثي، لا أستطيع أن أتخيل ما يحدث، كلما أغمضت عينيّ، رأيت
سوريا كمركب داخل البحر، تكاثر عليه قراصنة لا يجيدون القيادة. الوضع سيء من نظام ومعارضة
خذلت جمهور الثورة، والشباب الذين ضحوا بأرواحهم من أجل سوريا
لقد غادر خيرة الناس، وبقي المساكين والفقراء والحالمين بالتشبث بالأرض
أتمنى في كل لحظة أن أعود، لا لأكتب، بل لأتنفّس هواء تلك الأرض، حيث وُلدت
فيها، وحيث دُفن فيها الكثير من السوريين الأبرياء.
كيف تقيّمين وعي المرأة السورية المعرفي والأدبي في
الوقت الراهن؟ وكيف ترين وجهها الجديد بعد التقلبات الاجتماعية التي تواجهها كنازحة
وأرملة ووالدة شهيد؟
قلت للتو أنني متهمة بالاشتغال على عوالم المرأة، فالنساء اللواتي يشغلنني
إبداعياً. لسن دائماً ذلك النوع الواضح من النساء، اللواتي يظهرن على الملأ وفي الإعلام.
في فصل (حور العين) من روايتي الأخيرة، اشتغلت على عالم مغمور. هؤلاء بطلاتي،
الهامشيات، اللامرئيات. وقد أمدتني الثورة السورية بنماذج مدهشة من النساء القويات،
الناضجات، من متعلمات وأميات، من مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية.
أنا منحازة جداً للنساء في العالم،
وأكرر في كل منبر أذهب إليه، وفي كل مناسبة أتواجد فيها، ما قاله ابن عربي: “ما
لا يؤنث لا يعوّل عليه”. المرأة تعني المساواة الحقيقة، ونبذ النساء في أغلب تشكيلات
المعارضة، من أكبر الأخطاء التي ترتكبها العقول الذكورية.
المرأة السورية وحيدة ومتروكة، وقد سبق لي وكتبت بعض المقالات بخصوص ذلك.
النساء السوريات تعرضن للمهانة، وتُركن وحيدات، من كل الجهات. تماماً كما
سوريا، متروكة حيث يتفرج العالم على دمارها اليومي، ويكتفي بدقائق قليلة في الأسبوع
أو الشهر، لذكر أرقام الضحايا في نشرات الأخبار.
أشاد النقاد بروايتك الأخيرة، والبعض رشحها لتفوز بجائزة
البوكر لهذا العام، هل ترين أن هذه الجائزة تنصف الرواية العربية في اختياراتها؟
ليس هناك من أحكام مطلقة في أي شيء. قد تنصف الجائزة البعض من وجهة نظرهم،
وقد تكون جائرة بنظر البعض الآخر. ونحن في العالم العربي، نفتقد غالباً إلى الموضوعية،
وغالباً أحكامنا عاطفية.
شخصياً، أجد أن الجائزة تتطور سنة تلو الأخرى. وهناك جوائز غيرها بدأت بالظهور،
ربما أيضاً تساعد في الاهتمام بالإبداع العربي، الذي يستحق هذه الجوائز. أنا مع فكرة
الجوائز، ومع الجدل بكل سلبياته وإيجابياته، في التحريض على الإبداع والعمل والإنجاز
والنقد، وبالتالي التطور.
صدى الشام موقع يهتم بما وراء الحدث