رانيا مصطفى
كاتبة سورية
بدأت الثورة شعبية عارمة، بمطالب وطنية عامة. لم يكن من وعي سياسي كافٍ
لدى الشعب ليصوغ مطالبه المتعلقة بتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوزيع عادل للثروة،
وتوفير فرص عمل ودخل كافٍ للجميع، وتقليص الفوارق الطبقية، وإطلاق الحريات
العامة…؛ وبالتالي لم يتمكن الشعب المنتفض من تنظيم قواه لتحقيق ذلك، حيث اعتقل
النظام وقتل وهجر معظم الناشطين الأوائل، ليفقر الثورة من القدرة على مراكمة الوعي
السياسي ما أمكن، فضلاً عن العنف المتصاعد الذي يواجه الثورة به؛ كل ذلك مكن قوى
الثورة المضادة من التغلغل والتمكن في الثورة السورية.
فأولاً المعارضة السياسية تصدرت تمثيل الثورة في المجلس الوطني ثم
الائتلاف الوطني، وبدعم مالي وإعلامي (قطري- تركي- فرنسي للمجلس، وسعودي- أميركي
للائتلاف)، هي لم تُعنَ بمشكلات الثورة واحتياجات الشعب، ولا بإيجاد الحلول؛ بل
تركت تلك المشكلات تتفاقم، وساهمت هي نفسها بذلك؛ فهي عاجزة عن لعب دور سياسي يخدم
الثورة، لأنها لا تمتلك وعياً سياسياً يمكنها من صياغة برنامج للثورة تعمل وفقه،
بل هي تسعى لإيجاد مكان لها في الخارطة السياسية السورية؛ لذلك طالبت بتدخل عسكري
وحظر جوي منذ البدء، لتكون هي السلطة البديلة المفروضة على الشعب بعد إسقاط
النظام، تقليداً لما جرى نتيجة للتدخل العسكري الإمبريالي في العراق وليبيا. هذه
المعارضة “العاجزة”، بما فيها القوى ذات التوجهات الليبرالية، كثيراً ما
تلتجئ للطائفية السياسية، وهي تعمل، كما النظام، بأسلوب مافياوي؛ هذا يظهر جلياً
في ارتباط بعضٍ من أعضاء المجلس بأجندات عربية وإقليمية ودولية، وفي خلافاتهم
المتعاقبة على المحاصصة والمقاعد، وفي تحكم الإخوان المسلمين بالمجلس، ودعمهم
لكتائب بعينها على الأرض وشراء ولاءات بها، بالمال المقدم لهم من دول خليجية،
وبالتالي امتلاكهم للقدرة على التعطيل و”الخربطة” حين يلزم؛ وهذا يظهر
في موقفهم الرافض لجنيف2، بسبب استبعادهم من السيطرة على الائتلاف الوطني بعد
توسيعه الأخير، وليس لأنه لا يحقق مطالب الثورة كما يقولون ويزاودون.
هذه القوى الأصولية تقزم دور الحراك السلمي في إعطاء دور أوسع للشعب،
لذلك دعت إلى العمل المسلح باكراً، وهي تريد مصادرة إمكانية عودة زخم النشاط
السلمي والمدني حين يتوفر الظرف الملائم. هذه القوى تريد أسلمة الحراك وتطييفه، من
أجل السيطرة عليه، ولتكون هي الممثل السياسي- الطائفي للأغلبية الطائفية -حسب
اعتقادها- وهي هنا تستغل حالة الإيمان الشعبي الطبيعي -غير المسيس- الذي ينتشر لدى
الشعب، وتستغل حالة الدمار والتنكيل التي يتعرض لها من قبل النظام، وتستغل تصاعد
الحساسيات الدينية بعد كل مجزرة ترتكبها قوات النظام، وتستغل حالة العوز والحاجة
لدى الشعب بتقديم الطعام والسلاح وربما الدخل، من الأموال التي تتلقاها من الدول
الداعمة لها، السعودية خصوصاً؛ أي هي تستفيد من المزاج الشعبي في أسوأ لحظاته لتُوَغِّلَ
منطقها الطائفي والأصولي، وتحصل على تأييد يمكنها من السيطرة على المناطق المحررة؛
وبالتالي هي بعيدة كل البعد عن تلبية مطالب الثورة، وهدفها مصادرتها لصالحها وحسب،
وهي بطائفيتها وأصوليتها تخدم النظام، وتخدم كل القوى التي تريد إفشال الثورة.
تحدث النظام عن جبهة النصرة قبل ظهورها على الإعلام، كفرع لتنظيم
القاعدة مسؤول عن إحداث التفجيرات في دمشق وحلب، تلك التفجيرات التي تحمل بصمات
النظام نفسه!
ذلك ما
يدلل على أن تنظيم النصرة بالفعل نشأ في فروع أمن النظام، ليدخل على خط الثورة من
باب تفشيلها. ظهر التنظيم إلى العمل العلني لاحقاً، وقام بالتنسيق العسكري مع بعض
الكتائب المقاتلة، وحاول جذب المقاتلين عبر الانضباط العالي، والدعم المالي الذي
يحظى به من دول إقليمية تدعمه أيضاً، لكنه كثيراً ما يتوقف عن قتال النظام فجأة بأوامر مجهولة، يشك كثيراً
في اختراقات مخابراتية متعددة لها. يبدو أن أمراء جبهة النصرة أدركوا خطر انقلاب
المزاج الشعبي عليهم، فكثيراً ما يشهد التنظيم انشقاقات حين يتوقف عن قتال النظام،
وكثيرٌ من مقاتليه انضموا إليه للحصول على السلاح والدعم، وليس لإيمان متجذر
بأجندته السياسية كتنظيم تابع للقاعدة.
هذا ما جعل الجبهة تراعي المزاج العام، وتتحالف مع الكتائب السلفية
الأقرب إليها إيديولوجياً، وتؤجل قليلاً مطامحها في فرض حكم الخلافة. وبالتالي النصرة
جزء من القوى المضادة للثورة، لكن تأثيرها كان أقل من الغاية التي أنشئت لها، لذلك
فُتِحت الحدود العراقية واللبنانية أمام
مقاتلي داعش، الفرع الآخر لتنظيم القاعدة. ودوره التخريبي في الثورة أوضح، وهو
غالباً ما لاقى نفوراً شعبياً أدى إلى صدام مسلح مع كتائب الجيش الحر وبقية
الكتائب الإسلامية، وحتى مع جبهة النصرة (شقيقته في تنظيم القاعدة)، بعد أن تقاتل
مع القوى الكردية في الشمال الشرقي.
هذا التنظيم لا يقاتل النظام مطلقاً، فقد أُوجِد فقط ليسد الفراغ في
المناطق التي سقط فيها النظام، ويقيم دولة الخلافة بأحكامها القروسطية، ولا يلتفت
لمطالب الشعب الحياتية. تمكن هذا التنظيم من التحكم في المناطق الشرقية، ويخوض
معاركه مع الجيش الحر في الشمال، فيما مُنِع من الدخول إلى الريف الدمشقي.
المعارضة المُفْلِسة تغازل القوى الأصولية والطائفية، وتغض النظر عن
خطرها على الثورة، وعن سهولة التلاعب الإقليمي والدولي بتلك القوى، بل والنظام
نفسه، لصالح ضرب قوة الجيش الحر، ذو المنشأ الوطني الشعبي، والذي لا يلقى دعماً
كما بقية القوى المقاتلة؛ وهذا طبيعي، فالمعارضة نفسها باتت ألعوبة في يد القوى
المتدخلة في الشأن السوري، بل وفي يد النظام أيضاً. ربما الغاية من دعم قوى الثورة
المضادة، سواء التنظيمات المتطرفة بين الكتائب المقاتلة، أو مجالس المعارضة
السياسية الفاشلة، هي إيصال أكبر شريحة ممكنة من الشعب إلى الترحم على حكم النظام،
ما قد يعيد له بعض القبول والتأييد، تمهيداً لما سيقره جنيف2، والذي لم يحسم مسألة
بقاء الأسد في الحكم؛ حيث أن بقاءه يبدو بمثابة إعلان عن فشل الثورة، ما يعني
للدول المتدخلة كلها إبعاد شبح الثورات عنها. حالة استنقاع الوضع هذه، التي
يراقبها المجتمع الدولي، تصب في صالح تضخم دور القوى المضادة. الشعب الذي لم
يستسلم للقتل اليومي الذي يعيشه يومياً، هو ليس غائبٌ عن كل ما يجري، بل هو يتعلم
من أخطاء ثورته، فالخيارات المتاحة أمامه كلُّها لا تصب في صالح ثورته، وهو ما
سيفرض عليه العودة إلى خياراته الوطنية الشعبية من جديد.