صدى الشام _ غالية شاهين/
حتى اليوم، لم يزل العالم يصِفُ ملايين السوريين الهاربين من الموت متعدد الوجوه في بلادهم إلى بلاد الله الواسعة بـ”اللاجئين” أو “المهجّرين”، كما تميل بعض دول الجوار لإعطائهم صفة “الضيوف”؛ لا مراعاة لهم، بل لأهداف سياسية أحياناً، أو لأسباب اقتصادية ومؤسساتية تبرّر عدم منحهم حقوق اللاجئين المنصوص عليها في الأعراف الدولية أحياناً أخرى.
لكن ما يحدث على الساحة السورية وما يتكشّف من مخططات مرسومة لسوريا والمنطقة، سيحوّل قريباً، جزءاً كبيراً من هؤلاء اللاجئين إلى “منفيين” معلَّقين في الفراغ بين البلاد المضيفة التي ضاقت بهم وحمّلتهم تبعات مشاكلها السياسية والداخلية، وبين بلدهم الأم الذي يغلق أبواب العودة في وجوههم بعدما استولى النظام على مدنهم وقراهم وبيوتهم واعتبرهم أجساماً غريبة لا تناسب “تجانسه” المنشود.
غادر معظم السوريين بلادهم تحت تهديد الحرمان من الحياة أوالخوف من الاعتقال، محمّلين بحلم العودة ما أن يسقط نظام الطاغية الأسد، وتتوقف هذه الحرب الفاجرة عن طحن البشر والحجر برحاها الدائرة منذ أكثر من ست سنوات.
وهناك، في منافيهم المختلفة، ربّوا حلمهم بالعودة كما يربون أولادهم في المخيمات، لكنه كبُر مثل أولادهم أيضاً؛ محاصراً، محروماً، ضعيفاً وقلقاً .. خبؤوه تحت جفونهم المتعبة كي لا يناموا يوماً دون أن يوقظوه، دسّوه تحت وساداتهم القاسية المملوءة بالخوف والدموع، كأنهم يخبئون كنزهم الوحيد عن العيون، لكنه اليوم بدأ يتسرّب من بين أصابعهم.. ويغيب.
لا شيء يطعمه اللاجئون السوريون اليوم لحلم العودة كي يبقوه حياً ولو في مخيلتهم، فالعالم بدأ يعلن، بكل وقاحة، تجاهله لهم وضربه لكل قيمه الإنسانية الزائفة التي حرص على التبجّح بها، عرض الحائط، واصطفافه فرادى وجماعات مع ما يردده حكّامه كالببغاوات: “الحل السياسي” بوجود الأسد، وهو ما يعني بكل وضوح أن أهالي مناطق كثيرة من سوريا، مثل حمص والغوطة الغربية وداريا والمعضمية والزبداني وقدسيا ومخيم اليرموك، وغيرها من المدن السورية التي تم فيها تهجير قسري بكل ما للكلمة من معنى تحت مسمى “هدنة” أو “تسوية” مع النظام، غير قادرين وغير مسموح لهم أصلاً بالعودة، يشاركهم أهالي القرى العربية في منطقة الجزيرة السورية والشمال السوري، والذين هُجّروا أيضاً على يد “قوات الحماية الكردية”، كما سيلقى أهالي الرقة والمناطق “المحررة” من داعش مؤخراً نفس المصير، يُضاف إلى كل هؤلاء معارضو النظام من كل المدن السورية والذين هربوا نتيجة الملاحقة الأمنية ولن يستطيعوا حتى التفكير بالعودة ما دام نظام الأسد قائماُ ومسيطراً على المؤسسات الأمنية والعسكرية.
كل هؤلاء أضحوا اليوم منفيّين لا لاجئين ولا مهاجرين، فاستمرار الأسد يعني نفياً دائماً لهم وليس نفياً مؤقتاً يتحمله اللاجئ والدولة المضيفة بضع سنوات على مضض.
قد يحمل الغد القريب ملامح “سوريا الجديدة”، أو ما تبقى منها، لكن من يرسمون اليوم هذه الملامح يعبثون بكل ما فيها؛ يوزّعونها على مقاسات مصالحهم واتفاقاتهم السريّة والعلنيّة، ويغيّرون ألوانها وأحجامها بما يناسب أمزجة الرسّامين، لكن هذا العبث المفضوح الذي يتلاعب بالناس قبل الأمكنة، غسل وجه العالم كله فبانت ملامحه الحقيقية وسقطت كل الأقنعة التي حاول صناعتها وارتداءها على مرّ عقود.
هي التغريبة السورية في أسوأ صورها وأبشع تجلياتها، تمشي على ركب التغريبة الفلسطينية وتحاذيها، ليتفوق الأسد على الإسرائيليين في إجرامه ويوازيهم في عنصريته، فتتكرر الصور ذاتها: مفاتيح بيوت المنفيّين السوريين ما تزال تصدر عنين الأبواب كلما اهتزت في جيوبهم. بيارات فلسطين تبكي عنب داريا وزيتون إدلب. نهر الفرات يصب اليوم في بحر يافا، وجحافل شهدائنا يطرقون معاً أبواب سماء واحدة.