صدى الشام _ العميد الركن أحمد رحال/
ما أفرزته الحملة الجوية عبر الطائرات الروسية والأسدية والحصار الذي سبقها ضيّق كثيراً من الخيارات المتاحة أمام مقاتلي وسكان أحياء حلب الشرقية وقلّل من احتمالات بقائهم على قيد الحياة، وترافقت تلك الهجمة الشرسة مع هجوم أرضي تتناوب عليه مدفعية مطار النيرب وراجمات الصواريخ في منطقة الحاضر وبراميل حوامات “الأسد” وأكثر من 24 ميليشيا طائفية شيعية تتقدمها حركة “النجباء” العراقية وفيلق “القدس” الإيراني و”حزب الله” اللبناني. وجميع هؤلاء يَحظون بالمظلة الجوية الروسية التي ترفع شعار الحرب على الإرهاب بينما في حقيقة الأمر هي تساند أكثر الإرهاب إجراماً والمصنف في اللوائح الدولية المعتمدة.
الحملة الجوية المستمرة على مدينة “حلب” وأمام حالة التخلي وغض الطرف الذي تمارسه كل دول الغرب بمن فيهم الولايات المتحدة الأمريكية، أعطت الفرصة لهتلر العصر “بوتين” ولهولاكو الشرق “قاسم سليماني” ولنيرون سورية “بشار الأسد” بأن يحرقوا مدينة “حلب” ويقتلوا ويشردوا سكانها في الفرصة الزمنية المتبقية أمام وصول سيد البيت الأبيض الجديد “دونالد ترامب”.
مدينة “حلب” المحاصرة منذ أشهر دُمرت مشافيها ومدارسها، وأٌحرقت مستودعات أغذيتها، وأٌغلقت مساجدها، وأصبحت أجساد أطفالها ونسائها وشيوخها أشلاءً مرمية في شوارعها المقفرة حتى من عناصر الدفاع المدني الذين أصبحوا عاجزين عن التحرك، ومن يتواجد تحت الدمار وتحت الأنقاض من جثث الشهداء أكثر مما وصل إليه المسعفون أو واروهم التراب. حتى المقابر لم تسلم من إجرام قتلة هذا العصر فتعذر على أهل “حلب” دفن شهدائهم وفلذات أكبادهم ولسان حالهم يقول: “يا عالم نحن أيضاً بشر”.
إيران وعبر وكيلها في الضاحية الجنوبية وعبر ناطقيها اعتبروا معركة “حلب” هي “أم المعارك” واعتبروا احتلال “حلب” غاية وهدفاً استراتيجياً يسعون للوصول إليه تساندهم الآلة العسكرية لبوتين، والغرب الصامت والشاهد على تلك الجريمة النكراء أصبح بصمته شريكاً في تلك الجريمة من حيث لا يدري، و”بشار الأسد” الذي أصبح خارج كل الحسابات وخارج دوائر القرار المتحكمة في ساحات الميادين اقتصرت مهمته فقط على “شرعنة” وجود المرتزقة في سورية لأنه يعتبر أن بقائه على “خازوق” السلطة مرتبط بقتل أكبر عدد ممكن من السوريين الرافضين لوجوده ليس في السلطة فقط بل على وجه البسيطة بعد الجرائم والمجازر التي ارتكبها بحقهم.
نعم، الشعب السوري يعتبر أن المجتمع الدولي بقضه وقضيضه أصبح شريكاً في الجريمة التي تُرتكب بحق السوريين وعلى رأسهم المبعوث الأممي “ديمستورا” الذين يطالبون الفصائل بالانسحاب من “حلب” بعد أن كانت مطالبهم بالبداية سحب “جبهة النصرة” فقط من أحيائها.
من حيث المبدأ لسنا ضد خروج مقاتلي “النصرة” من “حلب” ولكن هل روسيا أعطت الضمانات الكافية باقتصار مطالباتها على تلك النقطة فقط؟
روسيا التي قالتها بصراحة ووقاحة: أن كل من حمل السلاح في وجه “الأسد” هو إرهابي ويجب قتاله. روسيا التي قالت أن حركة “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” هم إرهاب يجب قتاله، وروسيا التي قالت أن أعداءها في سورية هم المصنفون على قوائم الإرهاب وفصائل أخرى وذلك في تهرب واضح من اللوائح المعتمدة، وبفتح الباب لمجرميها ومرتزقتها بقتل كل من خرج ضد ديكتاتورية وإجرام عصابة “الاسد”.
الثورة السورية تقف اليوم أمام مفترق طرق ومنعطف خطير، فالتجربة تقول أنه مع إخلاء لبلدة “القصير” في ريف حمص أصبحت البلدة مرتعاً لمرتزقة “حزب الله” الذين حولوها لمرقد شيعي وأصبحت عروضهم العسكرية تتم فيها بانتهاك واضح للسيادة الخلبية التي يدعيها قزم القرداحة “بشار الأسد”، واضطرار الفصائل تحت ضغط الحصار للانسحاب من مدينة ابن الوليد “حمص” وأحيائها جعلها تصبح مدينة إيرانية ويٌطلق عليها اسم “الزهراء” ويصبح حي “بابا عمرو” هو مسكن لعائلات المرتزقة الأفغان الذين يقاتلون إلى جانب “الأسد” عبر لواء “الفاطميون”. ومع انسحاب أهالي ومقاتلي مدينة الصمود “داريا” أصبحت البلدة وكراً لحركة “النجباء” العراقية، وزعيمهم “الخزعلي” دخلها قبل أن يدخلها “بشار الأسد” بتغيير وحياكة واضحة لخريطة ديموغرافية تجعل من القلمون ومحيط ومدينة دمشق مناطق شيعية يرافقها مشروع نشر التشيع داخل أحياء العاصمة “دمشق” وبجهود من السفارة الإيرانية وملحقيتها الثقافية وعبر مشروع “الأبراج الإيرانية” الذي شرعنه “الأسد” بمشروع تنظيم (66) بساتين الذي أصدره عام 2015 والذي يسمح من خلاله للسفارة الإيرانية بتملك أكثر من 1200 دونم من مساحة مدينة “دمشق” ومحيطها، ويطرد سكان بساتين المزة والعسالي وحي القدم وكثيراً من الأحياء الدمشقية وصولاً إلى بلدة “السيدة زينب” جنوب العاصمة.
ومع الحرائق المصطنعة يكتمل المشهد. تلك الحرائق التي أصبحت مكشوفة والتي شملت سوق “البزورية” وأطراف سوق “الحميدية” بهدف إجبار التجار على بيع محلاتهم خدمة لمشروع “تشييع” دمشق والذي ترعاه السفارة الإيرانية في دمشق ويصمت عنه تجارها ويتخلون عن الأمانة التي وضعها بين أيديهم موطئ قدم رسول الله (صلى الله وعليه وسلم).
مع تلك المعطيات يقف سكان “حلب” وكل المناطق المحررة أمام استحقاق وطني وديني يُلزمهم بالبقاء وعدم التخلي عن أرض الحمدانية وعاصمتها. وأمام الواقع الجديد الذي أفرزته الأيام الأخيرة تزداد قناعتهم بصواب خيارهم، فأهالي “حلب” وأبناؤهم من المقاتلين يقفون اليوم أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها:
الخيار الأول: الخروج من المناطق التي تتعرض للقصف الجوي والمدفعي وراجمات الصواريخ أو المناطق التي سيطرت عليها الميليشيات الشيعية، وسيكون الموت بانتظارهم عبر ممرات الموت من خلال قناصة تلك الميليشيات أو عبر القصف الجوي كما حدث في مجزرتي “باب النيرب” و”جب القبة”.
الخيار الثاني: الهروب خارج المناطق التي تتعرض لقصف الطائرات والمدفعية وراجمات الصواريخ. وهذه الأمكنة محصورة بموقعين: إما حي “الشيخ مقصود” الواقع تحت سيطرة ميليشيات “صالح مسلم” الانفصالية المتحالفة مع ميليشيات “الأسد”، وهناك ينتظرهم الاعتقال والتحقيقات والتصفية، فميليشيات “مسلم” اعتقلت المئات من الفارين إليها وقامت بقتل العشرات منهم.
أو النزوح للمناطق التي سيطر عليها النظام مؤخراً في الأحياء الشرقية الشمالية وهو ليس بأفضل حالاً حيث قامت تلك الميليشيات أيضاً بفتح معسكرات التحقيق والقتل في مطار “النيرب” وحي “الصاخور”، وقامت باعتقال معظم الرجال وتم قتل الكثير منهم أيضاً. أما من وصل من الهاربين من جحيم الموت إلى الأحياء الغربية فقد اعتقلت حركة “النجباء” العراقية معظم شبابهم وأودعتهم زنزاناتها في معسكر قرية “جبرين” وتمت تصفية الكثير منهم، والتهمة التي واجهها كل من تم اعتقالهم على أيدي “كورد مسلم” وعصابات “النظام” ومجرمي “النجباء” وفي كل المواقع كانت جاهزة: مساندة ومؤازرة ودعم الثورة.
الخيار الثالث: هو البقاء في مناطقهم ومنازلهم وأحيائهم والاستشهاد بشرف وكرامة وهذا كان خيار أهالي “حلب” الشجعان.
القرار الذي اتخذته فصائل “حلب” بالإعلان عن حل كل الفصائل ونزع الرايات والتوحد ضمن “جيش حلب” الجديد التابع لمجلس قيادة حلب ونزع أي أجندة عن هذا الجيش يحمل في طياته رسالتين واضحتي المعالم:
رسالة أولى سياسية تقول: إن كنتم تودون قتال الإرهاب فالإرهاب ليس داخل مدينة “حلب” وليس عبر قتل أهلها. للباحثين عن الإرهاب فهو يتواجد على بواباتها عبر الميليشيات الطائفية التي استقدمها “بشار الاسد” لقتل الشعب السوري والمصنفة على أنها إرهاب “عابر للحدود”، والإرهاب موجود أيضاً في مناطق تواجد تنظيم “داعش” في مدينة “الرقة” وحيث يقاتله الجيش الحر في الشمال عبر عملية “درع الفرات” التي حررت الكثير من المناطق وخلصتها من أيدي إرهاب هذا التنظيم.
رسالة ثانية عسكرية تقول: إن أبناء حلب المنضوين ضمن “جيش حلب” الجديد؛ أبناء أحياء وأزقة “حلب” ومن خلفهم أهاليهم وذويهم اتخذوا قراراً لا رجعة فيه؛ أن الراية البيضاء لن تُرفع في سماء “حلب”، وأن بواباتها ستكون عصية على “قاسم سليماني” و”حسن نصر الله” و”بوتين” والقزم “بشار الأسد”، وأن الطريق إلى أحياء حلب الشرقية سيكون معبداً بدماء كل من تسول له نفسه التطاول على قدسية تراب الأجداد.
ولكي لا نُوصف بالأحلام والبعد عن الواقع نقول: قد تكون المعطيات العسكرية غير مواتية للثوار، وقد تكون ظروف مسرح الأعمال القتالية ليست في مصلحة المحاصرين من الجهات الأربع، وقد تكون غِربان الجو من طائرات “بوتين” و”الاسد” وحواماتهم قادرة على قتل كل أهالي “حلب”. لكن أمام قدسية المهمة وحتمية المواجهة فالاستسلام غير موجود في قواميس الثوار وأهلهم.
عصابات النظام التي أصبحت الناطقة الرسمية باسم كل ميليشيات القتل العابرة للحدود داخل أراضي الجمهورية العربية السورية تهدد اليوم كل من تبقى داخل حلب الشرقية بالموت والإبادة، والمجتمع الدولي يكتفي بأن يكون وكالة إعلام تنقل لنا تلك التهديدات بعيداً عن أي إجراء حقيقي أو ضغط فعلي يستطيع أن يُوقف إجرام “بوتين والأسد وملالي طهران” أو أن يُوقف شلال الدم الذي سيجرف ليس سورية فقط بل كامل المنطقة المحيطة عربياً وإقليمياً.
قرار أهل “حلب” حتى الآن هو المواجهة ورفض الانسحاب، وهم أبلَغوا أصحاب الشأن بخيارهم وقرارهم، ويبقى بصيص أمل لا نُعوِّل عليه كثيراً لكنه يبقى موجوداً بأن يستفيق ضمير العالم الغائب حتى الآن وأن ينصف قضية الشعب السوري. القرار الذي اتخذته المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر وتركيا بطلب اللجوء للأمم المتحدة بعد إغلاق الفيتو الروسي لمجلس الأمن هو خطوة بالاتجاه الصحيح، فيما ينتظر مشاريع القرارات (المصرية والكندية والنيوزلندية والإسبانية والفرنسية) الفيتو الروسي في مجلس الأمن الذي استخدمه الروس حتى الآن خمس مرات لإجهاض أي تحرك يوقف القتل في سورية ويضع أسس الحل ويبعد طاغية الشام عن سدة السلطة.
لكن يبقى سؤال لا يجد له الشعب السوري جواب:
بعد أن تكشفت ورقة الحرب على الإرهاب التي عنونتها روسية لاحتلالها سورية وقتلت بها الشعب السوري، وبعد اتضاح مدى الإجرام الذي تمارسه كل الميليشيات الطائفية الشيعية في سورية، وبعد الكم الهائل من القتل الذي كشف وفضح القتلة من روسيا وإيران والضاحية الجنوبية وميليشيات العراق والأسد؛ بعد كل ذلك:
أين يتم تصنيف تلك الجرائم الواقعة على الشعب السوري في المنظور الغربي؟
وأين حضارة الغرب وأين تشدقهم بحقوق الإنسان وأين دساتيرهم وقوانينهم؟
نختم بالقول:
في أفغانستان جرائم السوفييت أنتجت تنظيم “القاعدة”.
في العراق جرائم الأمريكان أنتجت تنظيم “داعش”.
جرائم الأمريكان والروس في سورية ماذا ستٌنتج؟؟؟
لا جواب!
إذاً عليكم أن تنتظروا ما هو أسوأ من تنظيم “القاعدة” وما هو أسوأ من تنظيم “داعش” … انتظروا غضب السوريين الذين تساوت عندهم كل الخيارات وأصبح لديهم الموت أمنية … لكنهم لن يموتوا وحدهم … كيف؟؟
الجواب آت في طيات الأيام القادمة …