الرئيسية / Uncategorized / عن اللجوء وبقايا الهوية

عن اللجوء وبقايا الهوية

سما الرحبي
كل شيء منظّم هنا لدرجة رتيبة، “الترام” يأتي بعد 6 دقائق، الشّمس في علاقة غرامية مع رقبتي، تقبل تلك المنطقة الرطبة الندية إلى امتداد الكتفين وأسفل الظهر بقليل، تاركة علاماتها العنيفة عليها، أواني “الكفتة” المغطاة بورق الجرائد بأيدي الأطفال، بيوت كبريتية بلا شرفات، لهجات غريبة، ناشطون يملؤون الحانات سُكْراً على شرف الثورة المجنونة، ظالمون هم مقرفون، كاستفراغ على حافة المرحاض، كرجل يبلع إفرازاته القذرة.
الإيجار..، وصاحب البيت الذي كلما عجزت عن فهم ما يريد، يحرّك أصبعيه الغليظتين مشيراً للنقود، يتبعها بضحكة بلهاء، شكله تماماً كشخصيات الطمّاعين في أفلام الكرتون، أجفان ناعسة مقلوبة، أنف كبير، خدود متورمة، قميص يكاد يشق زر الصُّرّة ماقبل الأخير مفتوح لتهوية الكرش، و”ِشحاطة” تبين تشققات كعب قدمه البني، شعره أشقر بعينين زرقاوين، وأسنان صفراء، وشفاه ممتلئة، السفلى ضعف الأخرى، وتبقى هابطة تكاد تصل الأرض، لا ينقصه إلا بعض البصاق في زاويتي فمه.
المدن تأكل التفاصيل إلا دمشق، مشبعة، غنية بها، رغم الحرب، بل على العكس زادتها كثافة، حدثتني أختي منذ أيام، أنها شاهدت غراباً ينهش شيئاً هلامياً لونه أحمر كرزي، كأنه جثة، أثناء عبورها الأوتستراد الدولي، ومازالت لليوم تقنع نفسها أنه كان يأكل بطيخاً.
اشتقت إلى أوتستراد الموت كما نسمّيه، والعبور فيه حين يسابق السائق جميع المركبات، كنمر يلاحق فريسته، على سرعة 250 خوفاً من رصاصة قناص، لم أكن أخافه،تجاوزه كان شغفاً ومتعةً هائلة، بالرغم من أن دقات قلبي كانت تصل لـ 700، ورغم علامات ضرب الرصاص على زجاج النافدة الأمامي، والشاحنات النائمة على جنبها، وعلب السمنة وحبات البندورة والخيار التي تفرش الطريق، والسيارات المدنية الفارغة التي تخبرك أن أحدهم خطف هنا، ورغم سماعي للكثير من القصص والأمور المفزعة التي تحصل عليه، كنت مؤمنة ومتأكّدة أنه لن يحدث لي شيء، فأنا في قلب الله..، مرة هطل سرب من الرصاص على التكسي الذي أستقله. كانت حادثة بمنتهى اللذة والمغامرة، أخرجت بها صرخات احتفظت بها أشهراً، واستفقت بعدهاعلى ضحكات السائق.
قبلها بعام شاهدت دبابة وجهاً لوجه لأول مرة في حياتي، كانت تسير بجانب التكسي على بعد خطوات، كنت أستطيع أن أمد يدي وألمسها، تفاصيل ثانوية، بل تافهة لما تعيشه المدن الثائرة، لكنها عنت لي الكثير يوماً، عندها بكيت وبكيت، تطايرت دموعي لخارج النافذة، غرقت بها، وكأني بطلة فيلم في مشهد تراجيدي، أحسست حينها كم أحب سوريا، وقطعت وعداً أن أفديها بنفسي إن استطعت، دارت الأيام، وقذفتني خارجها، أحاول العيش منتظرة الكلمة الأبشع في قاموسي “الفرج”.
واليوم أحتاج مسامير تشدُّ أكتافي المتراخية، تكاد تصل سطح الأرض مع قدمي، في رأسي حبّات بندق متناثرة، ترتطم ببعضها، ما يزيد صداعي، ساعتي البيولوجية، خردة تحتاج مصلحاً ماهراً ليرمم عقاربها، أحتاج للنوم، في عمق شجرة بهدوء فقط.
ها أنا أكرّر نفسي، أنهش مساماتي، عيوني، وذاكرتي، لم يبقَ منّي الكثير، أخاف فقداني، رغم محاولاتي المتكررة لإتلاف أجمل ما فيَّ.

شاهد أيضاً

بعد “أوميت أوزداغ” النظام السوري يمنع دخول أعضاء من حزب النصر

منع النظام السوري مجدداً دخول أعضاء من حزب النصر التركي من الدخول لسوريا بعد أيام …

الطائرات المسيّرة التركية تفتك بقوات الأسد في إدلب.. والطيران الروسي يغيب عن سماء المدينة

صدى الشام – فادية سميسم واصلت الطائرات التركية المسيّرة، عمليات استهداف مواقع قوات النظام السوري …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *