ميسون محمد
ثمة رغبة جامحة في الاستقلالية والاعتماد على الذات في داخل كلّ إنسان، وهي ميلٌ فطري، تظهر بوضوح في سنوات الطفولة الأولى. يسعى الطفل عبرها باستكشاف العالم من حوله، محاولاً فعل كل شيء بنفسه، متحدياً بذلك كل محاولات المساعدة. هذه الرغبة في الاستقلالية، إن لم تُغذّ، قد تتلاشى تحت وطأة الاتكالية، التي تفرضها البيئة المحيطة، مما يؤدي إلى تراجع الفرد عن تحمل مسؤولياته الشخصية والاعتماد على الآخرين.
إن تربية الإنسان على قاعدة اعتماده على نفسه في حلّ ما يواجهه من مشكلات صغيرة في طفولته، سيجعل هذه القاعدة تكبر مع تجاربه المتراكمة عبر الزمن، وهذا أمرٌ يفتح الذات على حرية محاولاتها في اكتشاف كنهها وقدراتها مستفيدة من أخطاء التجربة في المرة الواحدة، لتجاوزها، واكتشاف الحلول الأقرب للتنفيذ، أو إبداع الأفكار الجديدة المنتجة للحياة في أنساقها المختلفة.
لذا، يمكننا اعتبار أن الاعتماد على الذات يفتح الباب على تفجّر قدرات المرء على الإنتاج والإبداع والابتكار.
في عالمنا العربي، يُعد الاعتماد على الذات مدخلاً مهماً لتحقيق التقدم والتطور، حيث يُشكل الأساس لبناء الفرد والمجتمع والدولة. يتجلى هذا المفهوم في القدرة على الاعتماد على الموارد الداخلية وتطوير القدرات الفردية، والاستثمار في البحث والتطوير، وتعزيز الابتكار وريادة الأعمال. يتطلب الاعتماد على الذات ثقة عميقة في النفس وإيماناً بالقدرات الخاصة، مع السعي الدائم لتطويرها وتحسينها.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يُفهم الاعتماد على الذات على أنه دعوة للانعزال أو الاستغناء عن التعاون الدولي. ففي عالم مترابط، لا يمكن لأي دولة أن تعيش في عزلة تامة عن بقية الدول. وبالتالي، يجب على العالم العربي ألا ينسى نفسه، وألا يعتمد على شعارات عالمية لا تتسق مع واقعه. بل يجب عليه أن يعتمد على قدراته الخاصة ومواهبه أفراده الفريدة، وأن يتعلم من الخبرات العالمية، ويتبنى أفضل الممارسات، ولكن بطريقة تتناسب وظروفه المحلية التي تحقق التوازن بين الحفاظ على الهوية الثقافية والتطور الشامل.
ما ذكرناه سابقاً، هو نقطة بداية، لمناقشة لماذا يجب على العالم العربي أن يعتمد على ذاته، ويتجاوز الاعتماد على الشعارات العالمية، التي قد لا تثبت صدقيتها إلا مع الدول القوية والثرية؟
عندما ننظر إلى وضع الأهالي في فلسطين وسورية، نجد أنهم يعانون من ظروف صعبة ومأساوية. فالأطفال والنساء في هذه المناطق يشهدون تحديات كبيرة، حيث يعانون من العنف والقتل والتهجير والحاجة الماسة للمساعدة الإنسانية.
في غزة، على سبيل المثال، يتعرض الفلسطينيون لأوضاع صعبة ومأساوية. يشهدون الموت والدمار ويعانون من نقص في الإمدادات الأساسية مثل الماء والغذاء والرعاية الصحية. وعلى الرغم من التنديدات العالمية، إلا أن إسرائيل لا تبدي اهتماماً، ولا تتوقف عن استمرار انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، سورية، حيث تشهد البلاد صراعاً مستمراً وحرباً مدمرة منذ سنوات. ويتعرض السوريون للعنف والتهجير والقصف، مما يتسبب في معاناة إنسانية جسيمة. وعلى الرغم من وجود قرارات دولية، إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل لتخليص الشعب السوري من معاناته المستمرة.
إن الواقع الذي يعيشه العالم العربي اليوم يُظهر بوضوح الحاجة الماسة لتبني مفهوم الاعتماد على الذات. فالتحديات التي تواجهها المنطقة، من صراعات وأزمات إنسانية، تُبرز الضرورة الملحة لإعادة النظر في الاستراتيجيات القائمة وتطوير قدراتها الذاتية. ولعل تحقيق الأمن الغذائي والاستثمار الأمثل في الموارد الطبيعية والبشرية، يمثل الخطوات الأولى نحو تحقيق استقلالية قرارها وبناء مستقبلها
في نهاية المطاف، إنّ تحقيق التقدم واستقلالية مجتمعاتنا لا يتم دون غرس ثقافة العمل الدؤوب وتقدير قيمته. فالكسل والتراخي لن يؤديا إلى بناء قدراتنا، بل من خلال تحديد الهدف وبذل الجهد نستطيع تجاوز الصعوبات والتغلب على التحديات.
كما إنّ انتعاش مجتمعاتنا يتطلب تعزيز روح الاستقلالية لدى أفرادها وتلبية احتياجاتهم محلياً. وهو ما لن يتحقق إلاّ بالتعويل على قدراتنا وإمكاناتنا دون الاعتماد على الآخرين.
ولكي يستمر مفهوم الاعتماد على الذات عبر الأجيال، فإنّ بناء الدولة بدايتها تكون من بناء الفرد فكلما قوي الفرد قوي المجتمع، ولا يكون الفرد قوياً إلا من خلال تحديد هدفه في هذه الحياة والسعي لتحقيقه، ومن خلال إطلاق الحرية لمبادراته العملية والعلمية والإبداعية.
المصدر: نينار برس