على الرغم من نيل معتقلين سوريين حريتهم إلا أنهم لا يعتبرون أنفسم ناجين، إذ يترك التعذيب آثاراً على عقولهم وأجسادهم لا يمحوها الزمن، كما تظل تداعيات اضطراب ما بعد الصدمة ترافقهم حتى أن بعضهم انتحر.
– يحرص طبيب التجميل السوري أحمد السعيد على الابتعاد عن أي تفاصيل من شأنها أن تذكره بالفترة التي نكل به خلالها في معتقلات النظام التي أمضى فيها عامين، بداية من عام 2016، بتهمة “العمل مع الإرهابيين”، وانتقل خلالها بين 4 سجون، ثلاثة منها أمنية وواحد مدني.
ولم يعد الشاب الأربعيني المقيم في تركيا حاليا قادرا على رؤية البطاطا المسلوقة التي كانت الوجبة اليومية التي يعيش عليها السجناء، كما أنه لا يحتمل الظلام الدامس الذي يذكره بزنزانة العزل الانفرادي في فرع المخابرات الجوية بحلب والتي كان يُحشر فيها لأيام وأحيانا لأسابيع، لا يتحدث مع أحد ولا يسمع سوى صراخ آخرين بينما يعذبون، وهي حالة كانت “تدفعه إلى الجنون وطلب الموت في كل لحظة”.
وتعكس حالة السعيد آثار “التعذيب المستمر في سجون النظام السوري وما يخلفه من معاناة دائمة، وتبعات جسدية ونفسية على من نجوا من محنة الاعتقال لكنها ترافقهم طوال حياتهم، حتى بعد ما أصبحوا جزءا من السوريين المشردين داخل بلادهم أو فروا منها نهائيا طلبا للسلامة”، بحسب ما يوثقه تقرير لمنظمة العفو الدولية بعنوان: إنه يحطم إنسانيتك – التعذيب والمرض والموت في سجون سورية، الصادر في أغسطس/ آب 2016.
اضطراب ما بعد الصدمة
يتتبع تحقيق “العربي الجديد” تداعيات الآثار النفسية التي يعجز الناجون من سجون النظام عن تجاوزها لشدة ما مروا به من ضروب المعاملة اللاإنسانية والمهينة كما يصفها 5 معتقلين سابقين يوثق التحقيق معاناتهم، وهؤلاء تنسحب “الأهوال التي مروا بها” على 135.253 شخصا ما زالوا معتقلين أو محتجزين أو مختفين قسريا لدى النظام السوري منذ مارس/ آذار عام 2011 وحتى مارس 2023، بحسب ما جاء في التقرير السنوي للشبكة السورية لحقوق الإنسان (غير حكومية)، الصادر في 15 مارس 2023.
“انظر لجسدي كي تفهم ما أقول”، لم يتردد السعدي في رفع ملابسه أثناء سرد تجربته لمعد التحقيق بصوت مرتجف، إذ لا يوجد موضع شبر إلا وتغطيه آثار جروح عميقة وطويلة، لأن عناصر النظام استخدموا سكاكين لتجريحه ثم يبدأون بضربه عليها أو جلده كما يروي: “كان السجانون يمزقون ظهري بالسكاكين ويشتمونني ثم يقولون: ألست طبيب تجميل؟ لنرى كيف ستخفي ما رسمناه لك على ظهرك، هذه ذكرى سترافقك ما بقيت على قيد الحياة”، وبالفعل يرتجف السعدي كلما شاهد جسده وتذكر ما مر به.
وهذه الحالة، كما يفسرها الطبيب النفسي السوري محمد الدندل، والذي يدير مركزا للعلاج النفسي في مدينة إسطنبول بتركيا، تعرف باضطراب ما بعد الصدمة، وهي حالة صحية يستثيرها حدث أو ذكرى مخيفة شهدها الشخص، إذ يسترجع الأحداث والخوف والقلق والتفكير الذي لا يمكن السيطرة عليه كلما مر بباله ما يذكره بالحدث الذي تسبب له بالألم والعذاب، وهذا يترتب عليه تكرار الكوابيس وكذلك الانفعالات الحادة والتوتر الكبير، لذلك نجد الأشخاص الذين يمرون بهذا الاضطراب يتجنَّبون أيَّ شيء يذكِّرهم بالحدث أو حتى يهربون من الحديث عنه، مؤكدا أن النظام السوري يتعمّد ترك أثر جسدي أو نفسي على معتقليه لكي لا ينسوا ما عاشوه في السجون، إذ يتبع نهجا مدروسا في تعذيب معتقَليه، لذلك فإنهم جميعا بحاجة لدعم نفسي بعد خروجهم من المعتقل، حتى يمكنهم استعادة حياتهم.
ويعتمد حجم الأثر النفسي على عوامل عديدة قد تختلف من شخص لآخر وتحكمها ظروف مثل الرعاية التي يحظى بها الشخص بعد خروجه، والدعم الذي يتلقاه، ومكان وجوده، على سبيل المثال من يبقى في سورية يشعر بالرعب بشكل أكبر ممن يغادر البلاد، بسبب خوفه من اعتقاله ثانية، وعدم وجود دعم مجتمعي له، أما من يغادر البلاد فتبقى فرصته أفضل بالعلاج ويمكنه التوجه إلى الطبيب والبوح بما عاشه داخل المعتقل دون خوف من اعتقاله مجددا لأنه تكلم، كما يقول محمد الشريف، العضو في منظمة محامون وأطباء من أجل حقوق الإنسان، التي تعمل على جمع وحفظ شهادات الناجين من السجون في سورية وتوثيقها، مؤكدا من خلال الحالات التي ترصدها المنظمة من المفرج عنهم أن النظام يعمل وفق منهج متخصص في التعذيب النفسي لأنه لا يترك أثرا مرئيا وأمده أطول، والهدف منه تدمير شخصية وحياة المعتقل من كل الجوانب.
تدمير نفسي يقود إلى الانتحار
أنهى العشريني حسن كمال (اسم مستعار حفاظا على خصوصية وأمان عائلته) حياته شنقا في منزل أسرته بمحافظة اللاذقية، غرب البلاد، في 30 يوليو/ تموز 2023، بسبب مشاعر القلق والرعب التي ترافقه منذ خروجه من فرع أمن الدولة التابع لإدارة المخابرات العامة عام 2016، بعد قضاء 6 أعوام لقي فيها شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بتهمة “مساعدة الإرهابيين” دون أن يحال إلى المحاكمة، كما يروي إبراهيم، ابن عمه المقيم في تركيا، لـ”العربي الجديد”، والذي اكتفى بذكر اسمه الأول خوفا على حياة أسرته الموجودة في سورية.
عدم علاج المعتقلين من اضطراب ما بعد الصدمة يؤدي إلى ميول انتحارية
“كانت والدة حسن وشقيقته في انتظاره عند الإفراج عنه، وحاولوا بكل جهد خلال الأعوام الماضية مساعدته على تجاوز ما مر به مبكرا، إذ كان يبلغ عمره وقت اعتقاله 18 عاما فقط، لكن الأسرة فشلت وأنهى حياته”، بحسب إبراهيم، مبينا أنه بعد خروجه من السجن كان لا يغادر المنزل إلا نادرا، في ظل معاناته النفسية، وبقى مرعوبا طوال الوقت ويعتقد أن الأمن سيعاود اعتقاله في حال خرج، ويقول إبراهيم: “حسن قال لأسرته إن سجّانه هدده في حال خرج إلى المدينة وألقي القبض عليه مجددا فلن يطلقوا سراحه في المرة القادمة، وما زاد من رعبه أن والده توفي تحت التعذيب داخل المعتقل في فرع الأمن العسكري عام 2016 بحسب المعلومات التي تملكها الأسرة، ولا يريد لنفسه مصيرا مماثلا، لذلك كان يريد الهرب، ويطلب من إبراهيم بشكل دائم مساعدته ليسافر إلى تركيا، لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة، خاصة أن وضعه الجسدي والنفسي لم يساعده، وكان أي صوت مرتفع في الحي أو أصوات المركبات الثقيلة كفيلة بتحويل البيت إلى مكان يسوده الرعب بسبب ردة فعله، إذ كان يركض ويحتمي بشقيقته، أو حتى يدخل لغرفته ويغلق الباب على نفسه لوقت طويل، يضيف إبراهيم: “وهذا ما فعله عندما أنهى حياته، دخل إلى غرفته وخرج منها إلى التابوت”.
ويؤكد الشريف أن فكرة الانتحار تراود نسبة كبيرة من الناجين من الاعتقال، وتتشكل لديهم حتى قبل الإفراج عنهم ومن الممكن أن تصاحبهم بعد الخروج في حال واجهوا ظروفا صعبة، وإن وجدوا المساعدة سوف يقل التفكير بالانتحار، لكن تبقى الخطورة قائمة حتى بعد مرور زمن طويل من خروجهم، مشيرا إلى أنه خلال عمله مع المنظمة قابل 800 معتقل أغلبهم كان لديه هدف إنهاء حياته داخل المعتقل.
ويكشف تقرير لمنظمة محامون وأطباء من أجل حقوق الإنسان بعنوان: “كنت أموت ألف مرة كل يوم” – الاستعباد الجنسي داخل المعتقلات السورية، نشر في يونيو/ حزيران 2022، كيف يتبع النظام كل الوسائل لتدمير مستقبل المعتقلين في حال خروجهم من السجن، ومن ضمن تلك الطرق العبودية الجنسية التي يمكن لتداعياتها النفسية أن تكون مدمرة للناجين/ والناجيات، بما في ذلك استخدامهم كممتلكات وتعرضهم بشكل متكرر للعنف الجنسي وغيره من أشكال التعذيب والمعاملة المهينة، والسيطرة المطلقة من قبل السجانين على أجسادهم واستقلاليتهم. ويبين التقرير أن آثار هذه الجريمة على الناجين والناجيات في غاية الخطورة وتشمل لوم الذات ووصمة العار وتخلي الأسرة والمجتمع عنهم، ما يدفعهم إلى إلحاق الأذى بالنفس والتفكير بالانتحار والإقدام عليه فعلا.
المعتقلون يتجنبون الحديث
يتجنب المعتقلون الذين تعرضوا لتعذيب شديد الحديث عما عاشوه من ألم داخل المعتقل بعد خروجهم، وهو ما يجمع عليه 10 ناجين قابلهم معد التحقيق، ومن بينهم محمود الحسين (اسم مستعار لمعتقل سابق)، والذي أفرج عنه عام 2014 بعد اعتقاله لمدة عام ونصف في فرع فلسطين بدمشق، وهو أحد السجون سيئة السمعة التي تديرها المخابرات السورية، لكنه تعرض لتعذيب عنيف وتم إخصاؤه في السجن، ما دفعه إلى العزلة والتهرب من الحديث مع الأسرة عن تفاصيل ما عاشه، وفق رواية شقيقه سالم الحسين، والذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه الحقيقي لتجنب الاعتقال وإيذاء أسرته، كاشفا أن شقيقه “كان يترك أي جلسة نتحدث بها عن ظروفه بالحبس، وكذلك عند الاقتراب من موضوع الزواج أو الارتباط يبدأ توتره بالتصاعد تدريجيا ويستشيط غضبا، وفي لحظة بوح أليمة أخبرني بما حدث معه، طالبا مني عدم إخبار أحد”.
ينتهج النظام السوري أساليب تدمر شخصية ونفسية المعتقل حتى بعد خروجه
ويلجأ الناجون من سجون الأسد إلى الصمت والعزلة وعدم التحدث عن ظروفهم، نتيجة شعورهم بأن محيطهم لا يمكن أن يقدم لهم ما يساعدهم إلا نظرات الشفقة التي قد تشعرهم بالنقص وتزيد معاناتهم، بحسب توضيح الدندل، مبينا أن تذكّرهم للتعذيب الذي تعرضوا له قد يشعرهم بالألم نفسه أو بألم شبيه بما كانوا يعيشونه خلال فترة تعذيبهم، “كما لو تذكر أحد ما رائحة ويقول كأني أشمها الآن”، هذا تحديداً ما قد يشعر به المعتقل المفرج عنه لدى استرجاع شريط ما مر به في السجن، حتى أن كلمات أو جملاً تبقى موجودة في عقولهم لأنها كانت تتكرر على مسامعهم، مثل المفردات التي يرددها السجانون وعند سماعها تنقلهم إلى زنزانة المعتقل والأصوات التي كانوا يسمعونها، لذلك يتجه الكثيرون منهم إلى العزلة في محاولة لنسيان ما مروا به.
إقصاء يضاعف المعاناة
كانت منى داود (اسم مستعار حفاظا على أمان عائلتها) تتصور أن خروجها من فرع المخابرات الجوية بحلب عام 2013 سيكون نهاية للتعذيب البدني والنفسي الذي تعرضت له منذ اعتقالها في 8 أكتوبر/تشرين الأول عام 2012، لكنها لم تجد سوى النبذ، حتى من زوجها الذي طلّقها بعد إطلاق سراحها.
“حتى اليوم أدفع ثمن اعتقالي، منذ إلقاء القبض علي واتهامي بالتآمر على الدولة لأنني حاولت نقل بعض الأدوية لقرى في ريف إدلب”، تروي داود لمعد التحقيق الذي قابلها في مدينة أنطاكية بمحافظة هاتاي جنوب تركيا، مؤكدة أن جميع المحيطين بها يتجنبون التعامل معها حاليا أو يتعاطون معها بحذر خوفا من أي تبعات.
ويؤكد الدندل أن سياسة بث الرعب هذه في نفوس السوريين مدروسة أيضا، قائلا إن النظام السوري يمارس تعذيبا نفسيا جماعيا بحق الشعب السوري منذ عشرات السنين، عبر تعمده نشر قصص تعذيب المعتقلين والتي تحمل رسالة للمدنيين مفادها أن مصير أي شخص يفكر في معارضة النظام سيكون الاعتقال والتعذيب وربما الموت، وهذا حل مسبق من وجهة نظره لمنع الناس من الوقوف في وجهه، وحتى إن لم يعد هذا النهج ناجحًا في ترهيب الناس بعد الثورة، إلا أن النظام لن يبدله حتى لا تتغير صورته القوية التي يظن أنه حفرها في أذهان عناصره والمجتمع، “لكنها قوة هشّة” كما يصفها الدندل.
المصدر: العربي الجديد