مهند المحمد
كالنار في الهشيم، انتشرت في الأشهر الماضية ظاهرة توزيع الحصص الغذائية على الأطفال في مخيمات النزوح شمال غرب سوريا من خلال البثوث المباشرة على منصة “تيك توك”، لتشكل عملاً (كما أطلق عليه الأطفال)لكثيرٍ منهم يحصلون من خلاله على الغذاء لأسرهم في ظل حالة الفقر في المخيمات وانقطاع الدعم عن معظمها.
يقول مصطفى (12 عاما) وهو طفل والده معتقل منذ 11 عاما ويعيش مع والدته عند جدته وعمته في خيمة إنه كان يذهب الساعة الثالثة ليلاً برفقة أصدقائه في المخيم ليقطعون مسافة أكثر من كيلو متر للوصول لخيمة البث باكراً، ينتظرون حينها بين النصف ساعة والست ساعات ريثما يتم دعم صاحب البث ليحصل على حصة غذائية يعود بها فرحاً لجدته وعمته تكفيهم قوت يومهم.
ويضيف مصطفى أنه أحيانا وبعد حصولهم على الحصة الغذائية يقصدون خيمة بثٍ أخرى وينتظرون حصولهم على حصة أخرى ففي نفس المخيم قد تجد 5 خيم يتم فيها البث المباشر.
خيمة تحولت لاستديو:
تشبه خيمة البث المباشر الأستديو المصغر فهي خيمة مجهزة بطاولة كبيرة توضع الحصص الغذائية عليها، يتواجد فيها صاحب البث الذي يخاطب الداعمين عبر البث المباشر على منصة “تيك توك” من خلال جوال مثبت بستاند وتظهر خلفه الحصص الغذائية وخلفها يظهر مساعده الذي يقوم بتنظيم الأطفال واسكاتهم في حال تحركهم بالإضافة لتوزيع الحصص عليهم في حال حصول صاحب البث المباشر على دعم.
أغلب البثوث المباشرة على منصة “تيك توك” والتي يظهر بها أطفال المخيمات يتم فتحها ليلاً أو قبل صلاة الفجر لاستهداف الداعمين من دول أوربية، حيث ينشر صاحب الحساب فيديو ترويجي لبثه والوجبة التي سيقوم بتوزيعها وعدد النقاط، مقابل توزيع الوجبة قبل البدء بالبث بيوم أو بعدة ساعات طالباً من الداعمين حضور البث ودعمه لتقديم الوجبات للأطفال، فلتسليم ربطة خبز مثلا يجب دعم صاحب البث ب 100 نقطة عن طريق الهدايا.
استغلال الأطفال:
حسين 11 عاما والده مريض لا يستطيع العمل أبدى استياءه من أصحاب البثوث الذين يقدمون أقربائهم للحصول على الحصص الغذائية أولاً، أما هم ينتظرون عدة ساعات ومعرضون للطرد أو إرجاعهم للخلف في حال تحركهم ضمن البث.
أضاف حسن بأن صاحب البث يطلب منهم الدعاء للداعمين الذين يرسلون الهدايا عبر البث المباشر، وأثناء حصول صاحب البث على الدعم يلتفت إليهم مساعده طالبا منهم ترديد عبارات “كفو منك يا غالي، يا رب، ..”
الطفل أنور 10 سنوات عبر عن فرحه الشديد لدى حصولهم على حصص غذائية أثناء حضور البث المباشر مثل فروج أو زيت، خضار، خبز، فاكهة، وغيرها..
أجمع الأطفال أنهم يعتبرون حضورهم للبثوث المباشر عملاً يحصلون من خلاله على حصص غذائية لأسرهم، وأنهم في المستقبل سيبحثون عن عمل وفي حال عجزهم قد يفتحون بثوثاً مباشرة لتلقي الدعم. في حين لم يخف أنور أنهم عادوا دون الحصول على حصص غذائية أحد الأيام.
يخبرنا أبو خالد وهو والد أطفال يذهبون لحضور البثوث المباشرة أنه استيقظ فجراً مفتقدا أبنائه 10 سنوات و11 سنة مبدياً انزعاجه للذهاب في هذا التوقيت.
يحمل أبو خالد اللوم على صاحب البث بالدرجة الأولى لجمع الأطفال ليلاً، وعلى نفسه بالدرجة الثانية لعجزه عن تأمين متطلبات أطفاله، وأخيراً على الجهات الراعية للمخيمات بسبب تعمدهم افقار المخيمات من خلال مشاركتهم المساعدات التي تصلهم.
وأضاف أبو خالد أنه لدى عودة أبنائه وبخهم، لكنهم برروا ذهابهم بالحصول على وجبة فروج لم يحصلوا عليها منذ فترة.
تبعات خطيرة للظاهرة
ويرى الأخصائي الاجتماعي الدكتور محمد الفارس أن الأطفال بهذا العمر يجدون في البث المباشر فرصة للحصول على وجبة أو مساعدة يفتقدونها، وربما نوع من اللعب أو تمضية الوقت مع رفاقهم بالعمر، بينما هي في الحقيقة ستجعلهم يعتادون على هذا النوع من السلوك إذا تكرر، لأن التكرار يعتبر من آليات تشكل العادة السلوكية وخاصة اذا لم يكن لهم معيل( فئة الأيتام أو أبناء المفقودين والمعتقلين،..).
وأكد الدكتور فارس أن هذا الأمر سيؤدي إلى أضرار أبرزها تأخرهم الدراسي والخروج دون علم أهلهم، والاندماج مع رفاق السوء، ومن الأضرار الاجتماعية أيضا الاعتياد على لقمة العيش السهلة والبطالة وعدم الرغبة بتحصيل العلم وتعلم المهن ذات الكسب مما يؤدي لوجود فئة اجتماعية تستسهل هذا العمل، وهذا يزيد من حالات التسول والسرقة وعدم المبالاة في المجتمع.
من جانبه أبدى الطبيب النفسي موفق العموري دهشته من انتشار هذه الظاهرة معتبراً أن الأمر فاق الوصف.
وأوضح أن الآثار السلبية لهذا الأمر تعادل آثار الحرب التي استمرت 13 عاماً واستخدمت فيها كل أنواع الأسلحة وأدت للقتل والدمار والتهجير وبقاء الناس في المخيمات لسنوات طويلة، إضافة للزلزال وآثاره النفسية والبطالة المنتشرة وتفكك الأسر وانتشارهم في مناطق بعيدة عن بعضها، والانقطاع والتسرب المدرسي وانتشار المواد المدمنة وارتفاع نسب حالات الانتحار بين الاطفال وكل هذه الأمور أدت الى أنه لا يوجد طفل يمكن اعتباره سوي نفسياً.
ويعتبر الدكتور العموري أن استغلال الأطفال لحاجتهم لرغيف الخبز ونشرهم على وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الطريقة دون ادراك منهم من الناحية الأخلاقية والقانونية يشكل إشكالية كبيرة من ناحية استغلال أطفال قُصّر لا يدركون أبعاد الموضوع بطريقة يصعب وصفها.
وأكد الدكتور أن آثار هذه الظاهرة كبير جداً على الأطفال لأنها ستؤدي للانقطاع والتسرب المدرسي فالأطفال في هذا الظرف سيفضلون الخبز على ذهابهم للمدرسة بسبب الحاجة، كما أن استخدام الأطفال بهذه الطريقة من خلال البثوث المباشرة وشعور الاذلال الذي يعيشونه للحصول على الخبز أو وجبة غذائية ممكن أن يدرب الطفل على الكذب أو العدوانية أو الانطوائية.
وأردف أن الآثار المستقبلية لهذه الظاهرة أصعب بكثير لأنها تترك أثرا كبيرا على أنماط سلوكهم المستقبلية، وقد يتجه الأطفال لسلوكيات منحرفة عن المجتمع تؤدي لمشاكل سلوكية وأخلاقية.
ويبقى الأطفال هم الفئة الأشد ضرراً من استمرار وانتشار هذه الظاهرة بشكل كبير مما ينذر بكارثة في المستقبل، في ظل ازدياد الفقر في مناطق المخيمات، فهل نرى حلولاً في المدى القريب تنقذ الأطفال وتعيدهم لممارسة طفولتهم دون أي استغلال لحاجتهم ؟!
تم إنتاج هذه المادة من خلال مشروع ربط طلاب الإعلام بسوق العمل الحائز على جائزة (ivlp impact) ضمن مشروع الزائر الدولي التابع لوزارة الخارجية الأميركية”.