صدى الشام - عمار الحلبي/
في أواخر عام ٢٠١٧، وصف رئيس النظام بشار الأسد الأكراد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة بـ “الخونة”، وقال الأسد حينها: “إن كل من يعمل تحت قيادة أي بلد أجنبي في بلده وضد جيشه وضد شعبه هو خائن، بكل بساطة، بغض النظر عن التسمية، وهذا هو تقييمنا لتلك المجموعات التي تعمل لصالح الأمريكيين”.
وأضاف الأسد: “عندما نتحدث عما يطلق عليه تسميه الأكراد، في الواقع هم ليسوا فقط أكرادا، لديهم مختلف الشرائح في المنطقة الشرقية مساهمة معهم”.
واعتبر أن “كل من يعمل لصالح الأجنبي، وخاصة الآن تحت القيادة الأمريكية، وهذا الكلام ليس أنا من أقوله، هم يعلنون أنهم يعملون تحت مظلة الطيران الأمريكي وبالتنسيق معه، وهم سوقوا ونشروا صورا وفيديوهات حول هذا الموضوع فهو خائن”.
بعد ساعات على تصريح الأسد، ردت “قوات سوريا الديمقراطية” “قسد” التي تقودها ميليشيا “وحدات حماية الشعب الكردي” قائلة: “إن نظام الأسد هو من فتح أبواب سوريا على مصراعيها للإرهاب”.
وقالت “قسد” في بيان لها: “إن النظام هو من فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام جحافل الإرهاب الأجنبي، التي جاءت من كل أصقاع الأرض”. وأضاف البيان أن “النظام هو بالذات الذي أطلق كل الإرهابيين من سجونه ليوغلوا في دماء السوريين بمختلف تشعباتهم”.
واعتبرت أن “بشار الأسد وما تبقى من نظام حكمه، هم آخر من يحق لهم الحديث عن الخيانة وتجلياتها”، موضحة أن هذا النظام هو المسؤول مباشرة عن إطلاق يد الفصائل الطائفية في البلاد والتي عاثت فسادا في نسيج سوريا أرضا وشعبا.
العودة
لكن هذا التبادل في الاتهام والتخوين ما لبث أن تغير تماما وبدأ الطرفان في تبادل “الغزل السياسي”، بعد أن عادت “الوحدات الكردية” إلى “حضن بشار الأسد”، محقّقة بذلك انقلابا كاملا في الموقف السياسي، على خلاف الموقف الذي كانت تنتهجه قبل أشهر.
واليوم اختلف الأمر كثيرا، حيث أعلن “مجلس سوريا الديمقراطية” “مسد” وهو الجناح السياسي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عن إجراء زيارة للمرة الأولى إلى دمشق، بهدف إجراء مفاوضات مع مسؤولي نظام الأسد.
وذكرت قناة “روسيا اليوم”، أن وفدا من “مجلس سوريا الديمقراطية”، وهو الجناح السياسي لـ “قسد” وصل إلى دمشق تترأسه الرئيسة التنفيذية للمجلس، إلهام أحمد، مع مسؤولين آخرين، في زيارة رسمية هي الأولى من نوعها.
وأضافت القناة، أن اللقاء مع مسؤولين من النظام يأتي بهدف بحث الأمور السياسية والعسكرية المتعلقة بمناطق سيطرة “قسد” شمالي سوريا، وقال الرئيس المشترك لـ”مجلس سوريا الديمقراطية”، رياض درار، لرويترز: “إن المحادثات بين الوفد الكردي والنظام لا تقتصر على تقديم خدمات، وإنما من المتوقع أن تتطور لما هو أوسع من ذلك”.
وأضاف أن “المحادثات مع مسؤولين في الحكومة السورية في دمشق، ستشمل الأمور الأمنية والسياسية” وفق قوله، وشدد على عدم وجود شروط مسبقة من جهة قسد”.
ويضم الوفد التابع للمجلس رئيس حزب “سوريا المستقبل”، إبراهيم القفطان، وثلاثة مسؤولين آخرين.
زيارة المجلس لم تكن مفاجئة، ولا سيما أنه كان قد أعلن في حزيران الماضي، أنه مستعدا للتفاوض المباشر مع النظام في دمشق دون شروط مسبقة، في حين قالت الرئيسة المشتركة، إلهام أحمد: “إن الحوار السوري- السوري هو الحل دون تدخلات خارجية”.
أسباب العودة لحضن الأسد
لم يأت موقف “قسد” التحولي هذا عن عبث، بل جاء بعد عدة ظروف داخلية ودولية، جعلتها تضطر إلى العودة لإجراء صلح مع النظام وهي النقطة التي يختلف عليها المطلعين، حيث يرى البعض أن “قسد” خافت من امتداد العمليات العسكرية التركية إلى مناطقها في شرق الفرات، لذلك سارعت لإجراء مباحثات صلح مع الأسد، والتي من شأنها أن تبعد عنهم شبح الهجوم التركي.
في حين يرى آخرون أن “قسد” أدركت تخلي الولايات المتحدة عنها تماما وأدركت أن أمريكا لن يتعدى دعمها عن تقديم المساعدات العسكرية لها من أجل القضاء على تنظيم “داعش”، وأن صدامها مع النظام وميليشياته لن يجعل أمريكا تتدخل.
وبالمقابل يرى آخرون، أن روسيا هي من جهزت لهذا الاتفاق بين الجانبين، لتمضي في سياستها الرامية إلى تعويم بشار الأسد، وجعله يسيطر على كل الأراضي السورية، حيث أقدمت روسيا على هذا الأمر بعد تفاهمات بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما في القمة التي جمعت ترامب مع بوتين قبل أسابيع، والتي كان الملف السوري حاضرا خلالها.
وبخلاف ما يذكره المحللون، فإن خطوة “قسد” جاءت بعد أيام من وضعها أمام خيارين من قبل رئيس النظام بشار الأسد، وتمثل الخيار الأول بحسب ما قال بشار في تصريح سابق، بـ “فتح الأبواب أمام المفاوضات، لأن أغلبية القوات هي من السوريين، ويفترض أنهم يحبون بلدهم، ولا يرغبون بأن يكونوا دمى بيد الأجانب”، وفق زعمه.
أما الخيار الثاني للأسد، فهو “السيطرة على مناطق قسد بالقوة”، حيث قال: “إذا لم يحدث الخيار الأول، سنلجأ إلى تحرير تلك المناطق بالقوة، ليس لدينا أي خيارات أخرى، بوجود الأمريكيين أو بعدم وجودهم، ليس لدينا خيار آخر”.
بوادر صلح وغزل سياسي
ما إن بدأت المفاوضات، حتى أقدمت “قسد” على إجراء “بوادر صلح”، حيث سلم “مجلس سوريا الديمقراطية” النظام رفاة أربعة وأربعين جثة من قتلى قوات الأسد في الرقة كـ “مبادرة إنسانية”. وقال “مجلس سوريا الديمقراطية” في بيان له: “إن الجثث عثر عليها في مقبرة جماعية قبل أيام في محيط بلدة عين عيسى شمالي الرقة”.
وتم تسليم الجثث، بعد التأكد من هوية الجثث تبين أنها عائدة لعناصر من قوات الأسد قتلوا في أثناء هجوم تنظيم “داعش” على اللواء 93 في عين عيسى في آب 2014.
وجرى التسليم في معبر الطبقة بين مناطق النظام والقوات الكردية، وكان في الاستقبال قيادات عسكرية ومدنية من قوات الأسد في حين ترأس وفد “مجلس سوريا الديمقراطية” عضو الرئاسة المشتركة لمكتب التنمية والشؤون الإنسانية، سوزان علوش.
وقالت علوش: “إن هذا العمل يأتي كمبادرة إنسانية من جانب مجلس سوريا الديمقراطية لتسلم هذه الجثث لذويهم”.
وتكللت هذه “المبادرة” بإعلان رياض درار، الرئيس المشترك لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” أن زيارة وفد المجلس إلى دمشق تأتي بناء علي دعوة “الحكومة السورية” للتفاوض، وذلك لزرع الثقة “لأن التفاوض بلا شروط هو هدفنا”.
وأضاف وفقاً لراديو “سبوتنيك” الروسية، أن “ذلك الاجتماع كان نتيجة لقاءات تشاورية مع الأحزاب الكردية في مدينة الطبقة شمالي سوريا، تحت شعار الحل السياسي، والتي اتفقنا فيه على الانفتاح الكامل على عودة الدولة السورية في كامل مناطق البلاد وعودة الأمن والاستقرار والحديث عن لوازم هذا الأمن سواء عسكري أو سياسي”.
بالمقابل اعتبرت إلهام أحمد أن خيار تسليم المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” للنظام السوري أمرا مستبعدا، وأضاف درار أيضا: “لم نتحدث تفصيلا عن عودة الجيش السوري، لكن سنتحدث مستقبلا عن شكل العلاقة بين قواتنا، التي تحفظ الأمن هناك وبين الجيش السوري”.
كما نفي درار أن يكون هناك اتفاق بشأن تسليم المنشآت النفطية للنظام، موضحا أن ما جرى الاتفاق بشأنه هو تسليم منشأة “سد الفرات”، وقال إن هذا مرهون بسير المفاوضات، وطبيعة ما ستنتهي إليه.
مصير إدلب
يرى خبراء أن هذا الانعطاف المفاجئ الذي قام به الأكراد، من شأنه أن يؤثر بشكل مباشر على مصير الثورة السورية أو ما بقي منها، كما أن من شأنه أن يؤثر على القرار التركي. ويدلل الخبراء على رأيهم بهذا السياق، في أن انتقال “الورقة الكردية” من أيدي الولايات المتحدة الأمريكية إلى أيدي روسيا، يجعل هذه الورقة التي باتت بيد روسيا محط ابتزاز لأنقرة.
وبحسب مصدر مطلع مقيم في مدينة القامشلي، رفض الكشف عن هويته، فإن تركيا بعد أن علمت بأن ملف الأكراد بات بيد موسكو، أصبحت مستعدة بشكل مباشر لتقديم جميع التنازلات لروسيا ومن خلفها النظام، وذلك من أجل استرضاء روسيا، لحل الملف الكردي بصيغة ترضي تركيا التي تتخوف من تأسيس كيان كردي على حدودها، لذلك فإن تركيا ستصبح جاهزة لتلبية جميع طلبات موسكو مقابل القضاء على حلم تأسيس فيدرالية كردية على حدود تركيا تهدد أمنها وسلامتها.
وتتركز الملفات التي تمسك بها أنقرة وتسعى موسكو إلى الحصول عليها في نقطتين رئيسيتين وهما، ملف اللاجئين السوريين في تركيا، التي تسعى موسكو إلى إعادتهم، إضافة إلى مصير إدلب، التي تغرق بنقاط المراقبة التركية والروسية، والتي تتطلع روسيا إلى السيطرة عليها وطرد المعارضة السورية منها.
هذا الواقع قد يجعل تركيا تقدم تنازلات لروسيا فيما يخص ملف اللاجئين السوريين، كالتعاون مع موسكو من أجل إعادتهم إلى مناطق النظام، وكانت روسيا قد اتخذت خطوات متسارعة ودولية من أجل ملف اللاجئين السوريين، وإعادتهم إلى مناطق النظام عن طريق وزارة الدفاع الروسية التي حملت هذه الراية وبدأت بالتواصل مع الدول المختلفة.
أما فيما يخص إدلب فلا يزال مصيرها غير واضح في ظل تصاعد تهديدات النظام ومن خلفه روسيا، من أجل السيطرة عليها، وهو ما يزيد من احتمال قبول تركيا بالحل على الطريقة الروسية الأمر الذي يهدد مصير ملايين السوريين الموجودين في محافظة إدلب وريف محافظة حلب الشمالي والغربي.
تقلبات الموقف الأمريكي
شهد الموقف الأمريكي، ولا سيما بعد استلام الرئيس دونالد ترامب رئاسة أمريكا، عدة تقلبات جعلت حلفائها الأكراد في سوريا يتخوفون من استمرار الثقة بها، الأمر الذي دفعهم لـ “فتح طريق عودة” مع نظام الأسد في دمشق.
ويتمثل التخوف الكردي في هذا السياق، من خذلان واشنطن لهم في منبج وعفرين، حيث سمحت بتمرير معركة “غصن الزيتون” في عفرين ضدهم، إضافة إلى أنها أبرمت اتفاقا مع تركيا من أجل دخل دوريات مشتركة أمريكية وتركية إلى خط الساجور على حدود منبج، تزامنا مع انسحاب “مجلس منبج العسكري” التابع لـ”قسد” من تلك المنطقة، تمهيدا لتسليم منبج إلى فصائل المعارضة السورية المتحالفة مع تركيا.
وأثارت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا، والمواقف الأميركية المتضاربة لاحقا بشأن الشمال السوري، وتغليب مصالحها مع أنقرة تخوفات عميقة لدى الأكراد من فقدان كل الحلفاء دفعة واحدة و”الوقوع بين فكي الكماشة التركية والسورية”.
غير أن الموقف الأمريكي لطالما وصف بالمتقلب، فإنه شهد تقلبات فيما يخص الملف الكردي، فما أن بدأ التقارب بين نظام الأسد والأكراد، حتى زار السفير الأميركي وليام روباك، مدينة الطبقة الواقعة جنوب نهر الفرات شمال شرقي سوريا، وعقد اجتماعا مع مسؤولي الإدارة المدنية، ضم رئيس المجلس التشريعي الشيخ حامد الفرج، والرئيسة التنفيذية للإدارة المدنية هند العلي، وأعضاء ورؤساء الهيئات التنفيذية، واستمرت المباحثات نحو أربع ساعات.
وبحسب صحيفة “الشرق الأوسط” فإن روباك نقل عن الرئيس ترامب، تعهده ببقاء القوات الأميركية والتحالف الدولي العاملة في شرق الفرات، في المناطق المحررة من قبضة “داعش” لمنع حدوث فراغ أمني أو خلل عسكري، أو عودة عناصر “داعش” أو ظهور تنظيمات إرهابية متطرفة.
وشدد أن الرئيس ترامب لا يعتزم سحب قوات بلاده من المناطق التي تتواجد فيها “قوات سورية الديمقراطية” بما فيها مدينة الطبقة جنوب نهر الفرات، لدعم عملية الاستقرار في هذه المناطق.