عمار الحلبي - مروان القاضي/
صدحت مآذن المساجد في مدينة الضمير بمنطقة القلمون في ريف دمشق الشمالي الشرقي بنداء يطالب أهالي الغوطة الشرقية النازحين في المدينة بحزم متاعهم تحضيرا للمغادرة “شاؤوا أم أبوا” إلى الغوطة الشرقية التي سيطر عليها نظام الأسد بعد عمليات قتل وتدمير وتجويع استمرت لأكثر من خمس سنوات.
ويتواجد في مدينة الضمير مئات العائلات النازحة منذ سنوات من مدن وبلدات الغوطة الشرقية ومنهم من نزح إلى الضمير قبل تشديد الحصار من قوات النظام على الغوطة الشرقية عام 2013 وفقدوا كل شيء في الغوطة الشرقية بعد تدمير منازلهم وحرق ممتلكاتهم من قبل قوات نظام الأسد.
ولم تلجأ تلك العائلات إلى مدينة دمشق أو مناطق أخرى يسيطر عليها نظام الأسد في البلاد خوفا من الانتقام من شبيحة النظام أو اجبار الشباب على الالتحاق بالخدمة الإلزامية ضمن قواته وإجبارهم على المشاركة في معارك ضد أهلهم في مناطق أخرى.
وأثارت تلك العملية التي قام بها مسؤولون تابعون للنظام في مدينة الضمير حالة من الاستياء الشديد والخوف لدى العائلات النازحة في المدينة، في الوقت الذي تشير فيه مصادر إلى أن عدد النازحين هناك في المدينة يتجاوز الخمسين ألفا جلهم من بلدات القطاع الشرقي من الغوطة، كما أن هناك أعداد مشابهة نزحت إلى مدينتي التل ومعربا في القلمون الغربي.
يحاول نظام الأسد عن طريق عملائه إجبار الأهالي على العودة إلى الغوطة الشرقية من إجل إقحام الشباب في صفوف قواته.
ولا توجد إحصائية دقيقة لأعداد النازحين والمهجرين من الغوطة في محيط دمشق ومحيط ريف دمشق، إلا أن معظمهم يقيم في مدارس ومراكز إيواء بعد فقدانهم كل ما يملكونه، وتمكن النظام من إعادة المئات من العائلات من مراكز الإيواء التي يشرف عليها في محيط مدينة دمشق، إلا أن المراكز التي لا يشرف عليها والواقعة في المدن التي لم تخضع له بشكل تام بعد فيحاول إعادتهم عن طريق لجان المصالحة التابعة له.
حملة تهديد وترغيب
وبدأ النظام من خلال تلك اللجان بحملات تهديد وتحريض يهدف من خلالها إلى إظهار أنه الوحيد القادر على إدارة الأمور في البلاد، كما يريد إظهار أنه قام بـ”تحرير الغوطة من الإرهاب وإعادة المدنيين” وفق ما أكدته مصادر لـ”صدى الشام” حيث سمحت قوات النظام بالتعاون مع الشرطة الروسية بعودة مئات العائلات وقامت بتسليمهم منازل لم تدمر، كما قامت بمد خطوط الماء والكهرباء بشكل سريع.
وتزامنا مع تلك العملية بدأت قوات النظام بدفع عملائها للعمل على التحريض ضد النازحين في المناطق التي خضعت لعمليات التهجير تحت مسمى “المصالحة”، بهدف دفعهم للعودة إلى الغوطة والرضوخ تحت شروط النظام، حيث بدأت بتأليب الناس على بعضها مناطقيا وافتعال مشاكل على خلفيات اقتصادية.
وعملية التحريض جاءت متزامنة مع عملية تهديد للنازحين، ومصادرة أملاك الغائبين عن الغوطة الشرقية من عقارات “منازل، أراضي، محلات تجارية”، وقامت بإعادة عائلات من المهجرين إلى الشمال السوري ومنحهم منازل أيضا كان أصحابها قد هجروها ولم تتعرض للدمار.
ويقوم النظام بإعطاء وعود للنازحين بمنحهم منازل ومساعدات ومد خطوط الماء والكهرباء للمناطق التي يريد إعادتهم إليها، إلا أن مصادر أكدت لـ”صدى الشام” أن هناك من أراد العودة من تلقاء نفسه إلا أن النظام طلب منه بيانا كاملا عن مكان أولاده وتسليم أنفسهم إن كانوا مطلوبين لـ”خدمة العلم” وهو ما دفعه للعدول عن فكرة العودة.
يشترط النظام على من يريد العودة إلى الغوطة من الرجال الكبار في السن أن يقوم بتسليم أولاده كي يسوقهم إلى الخدمة الإجبارية
إلى أين نعود؟
ويتحدث “أحمد الحلاق” النازح من بلدة العتيبة الواقعة في أقصى القسم الشرقي من الغوطة الشرقية مع “العربي الجديد” عن خروجه مع عائلته من الغوطة منذ عام ٢٠١٣، عندما بدأت قوات النظام بفرض الحصار على المنطقة، وكان خياره النزوح إلى مدينة ضمير، ذلك النزوح أفقده كل ما يملك الأرض والمنزل والعمل.
ويقول “أحمد”: عند وصولي إلى الضمير تم إبرام حالة من التهدئة، وقضيت السنوات الماضية كلها في مدارس الإيواء التي جمعتنا مع كثير من النازحين إليها، يطلب منا المسؤولون اليوم العودة إلى الغوطة الشرقية، ويروجون على أنها حررت من “الإرهاب”، نحن نخاف من الاعتقال أو الاستجواب في الأفرع المخابراتية التابعة للنظام، فضلاً عن السحب الإجباري إلى العسكرية.
بدوره يقول “أبو محمود” النازح من بلدة العبادة إن بلدتي لم يبقى فيها حجر على حجر، وكانت العبادة ساحة للمعارك بين “جيش الإسلام” وقوات النظام وقد قام النظام مؤخراً بعد الاستيلاء عليها بتدميرها بالكامل وتدمير البيوت خوفا من مباغتات “جيش الإسلام” له في تلك المناطق.
ويضيف في حديثه مع “صدى الشام” : “يأتي اليوم ليقول لنا عودوا إلى “العبادة” لا نستطيع العودة بعد تدمير بيوتنا وتدمير ممتلكاتنا، الواجب على تلك الدولة السورية تقديم المساعدات المالية الضخمة لبناء ما قامت بهدمه في الغوطة الشرقية، قبل طلب العودة.”
أما “علي جعفر” النازح من مدينة دوما يرى أن “أهل دوما أكثر من يخافون العودة خوفا من انتقام النظام، حيث ذاق النظام الأمرين من أهالي مدينة دوما ومقاومتهم، وكانت قلعة الصمود في الثورة السورية وقد قدم على أسوارها النظام الكثير من جنوده، لذلك يرى الكثير من أهل دوما أن للنظام ثأرا في دوما لن ينساه.”
ومر نحو ثلاث أشهر على سيطرة النظام والميليشيات الموالية له على الغوطة الشرقية، بعد هجوم بدأ مطلع العام الحالي، بدعمٍ من الميليشيات الإيرانية والطيران الحربي الروسي، وانتهت بخروج المعارضة من الغوطة الشرقية، وذلك بعد أن دمر الطيران معظم الأبنية السكنية والحيوية.
وباتت معظم مدن وقرى وبلدات الغوطة الشرقية، غير صالحة للعيش الآدمي، بسبب النسبة العالية من الدمار سواء المساكن أو البنى الخدمية، وبعد هذه الأشهر، بدأ النظام بإعادة المدنيين الذين أجروا “تسوية” معه إلى الغوطة، ولكن مع إصلاحات “خلّبية” غير ملموسة، ما جعل هؤلاء المدنيين دون أي خدمات تذكر.
مسار المدنيين
زامن النظام حملته العسكرية على الغوطة الشرقية، بفتح معابر “إنسانية” من أجل خروج المدنيين نحو مناطق سيطرته في العاصمة دمشق، حيث خرج عن طريق هذه المعابر آلاف المدنيين.
وبلغ عدد الفارين بحسب “وزارة الدفاع الروسية”، نحو ١٢٨ ألفا بعد سيطرة النظام وروسيا على القطاع الأوسط في الغوطة وحرستا، واضيف له نحو ١٠٠ ألف بعد سيطرة النظام على دوما، في حين هجر المدنيون الذين رفضوا “الصلح” مع نظام الأسد إلى الشمال السوري.
وبعد سيطرة النظام على الغوطة بشكل كامل، سمح لبعص المدنيين بالعودة إليها، ولكن حتى التاسع عشر من شهر حزيران الحالي، عاد فقط نحو ٢٠ ألف مدني من أصل مجمل عدد سكان الغوطة الذين كانوا يقاربون النصف مليون مدنيا، وذلك وفقا لتصريحات نقلتها صحيفة “الوطن” المقربة من النظام عن محافظ ريف دمشق علاء ابراهيم، وما تزال حكومة النظام حتى اليوم تعمل على إعادة ما بقي من مدنيين في مراكز الإيواء.
وزعم إبراهيم: “أنه سيتم اتخاذ الاجراءات اللازمة لعودة بقية الأهالي، ومن ضمنها فتح الطرقات وترميم المدارس والبنى التحتية”.
لا خدمات
وأجرت “صدى الشام” حديثاَ مع مدنيين في الغوطة الشرقية، عن ظروف عودتهم وكيف كانت الغوطة بعد أن طلب منهم النظام العودة إلى منازلهم، فلم تجد “أم عمار” إلا فرنا آليا ينتج الخبز بشكل يومي في مدينة حرستا، التي تعيش بها الأربعينية.
وقالت لـ “صدى الشام”: “على الرغم من أن منزلي لم يطله الدمار كما طال غيره، واقتصرت الأضرار على الماديات جراء التعفيش الواسع من قبل جيش النظام، إلا أن بقية أمور الحياة غير متوفرة”.
وأوضحت المرأة، أنها لم تجد في المنطقة أي خدمات سواء كانت مياه أو كهرباء أو اتصالات أرضية، لافتة إلى وجود اتصالات خليوية وانترنت بجودة بطيئة جدا.
وأشارت إلى أن مستلزمات الحياة معظمها بما فيها المعدات الالكترونية وأثاث المنازل لم تكن موجودة في الغوطة حيث كان يتم شرائها من دمشق، لكنها أشارت إلى أن الحواجز تتقاضى أموالاً طائلة مقابل السماح للمدنيين بإدخال البضائع التي تلزمهم لاستمرار حياتهم من دمشق إلى غوطتها.
ووصفت أم عمار الحياة داخل الغوطة بأنها “أشبه بالحياة في العصر الحجري، قائلة: لا يوجد أي شيء ولا حتى أسواق أو مدارس للأطفال أو حدائق أو أماكن لشراء الحاجيات الضرورية، مستغربة من طلب النظام من المدنيين العودة إلى الغوطة وهي لا تتوفر بها أدنى مقومات الحياة.
حواجز النظام والميليشيات التابعة له تفرض ضرائب على الأهالي الذين يقومون بنقل البضائع من دمشق إلى الغوطة الشرقية.
خطة النظام التي لم تطبّق
بعد سيطرة النظام على الغوطة، شكلت حكومة الأخير لجنة للعمل على كشف وجرد وإحصاء الأضرار وإعادة تأهيل المرافق والبنية التحتية فيها، إضافة إلى الأبنية المتضررة في المنطقة، وأعلنت محافظة ريف دمشق أنه سيتم تأهيل البنى التحتية في المنطقة وتأهيل المدارس وعودة الأهالي إلى مناطقهم، خلال الصيف الحالي.
وقال محافظ ريف دمشق علاء منير إبراهيم،: “إن سبب اختيار الوقت في الصيف لأن الأهالي يستطيعون ترميم منازلهم دون التعرض للعوامل الجوية”، وأضاف أنه “سيتم تأهيل الطرقات الأساسية مع إرجاع خطوط النقل خلال أيام قليلة، وكشف عن خطة إسعافية لمساعدة الأهالي في ترميم منازلهم إضافة إلى وجود منظمات دولية تعمل في المحافظة”.
وبحسب صحيفة “تشرين” التابعة للنظام، فإن محافظة ريف دمشق خصصت أكثر من ثلاثة مليارات ليرة سورية لتنفيذ مشاريع إعادة إعمار الغوطة الشرقية من أصل المبلغ المخصص لإعادة إعمار ريف دمشق بأكمالها، والذي يبلغ ٥ مليارات ليرة سورية في المرحلة الأولى، من ضمنها ٢٠٠ مليون ليرة لتأهيل القطاع الخدمي في المليحة.
وزعم إبراهيم أن “شركات القطاع العام ستبدأ عملها في تأهيل الطرقات والجسور فيما ستمنح كل منطقة ما بين 100 إلى 150 مليون ليرة لدعم البلديات”، إضافة إلى وضع مخططات تنظيمية جديدة تعتمد البناء الشاقولي، والتي سيصل ارتفاعها الطابقي إلى ثمانية طوابق، فيما كانت سابقا تتفاوت ما بين الأربعة والخمسة طوابق حسب المنطقة، باستثناء مناطق في مدينة دوما التي وصلت الأبنية فيها إلى عشرة طوابق.
غير أنّ تصريحات النظام ما زالت حتى الآن مجرد تصريحات وحبرا مكتوبا على الورق، ولم يترجم حتى الآن لعمل أي إصلاح، فيما يبقى المدنيون في الغوطة دون أي خدمات.
وعود النظام بإعادة الإعمار في الغوطة ما زالت حبرا على ورق، والأهالي يعانون بسبب دمار منازلهم بشكل كلي أو جزئي
ترميم ذاتي
أما المدنيون الذين كانت فاجعتهم أكبر وخسروا منازلهم سواء بشكل كلي أو جزئي جراء قصف طائرات النظام والطائرات الروسية، فقد لجأوا إلى ترميم منازلهم بأنفسهم بشكل ذاتي، بعد أن يأسوا بتقديم النظام أي مساعدة لهم.
ومن بين هؤلاء المدنيين الذين أقدموا على هذا الخطوة “أبو يوسف” وهو خمسيني من سكان مدينة كفر بطنا، حيث أشار لـ “صدى الشام” إلى أنه دفع أموالا إضافية من أجل أن تسمح الحواجز لسيارة الاسمنت والحديد ومعدات البناء بالدخول إلى الغوطة، موضحا أن حاله كحال عدد كبير من المدنيين ما زال يقوم بعملية الترميم من أجل جعل المنزل صالحا للسكن.