صدى الشام _ عدنان علي/
طُويت الصفحة الأخيرة من صفحات الغوطة الشرقية بمجزرة فظيعة ارتكبها نظام الأسد في مدينة دوما بسلاح يحوي مواد كيماوية يعتقد أنها غاز السارين السام، أعقبها مباشرة إعلان الاتفاق على تهجير المقاتلين والمدنيين الرافضين للمصالحة مع النظام و”التسوية”.
ومع خروج مقاتلي “جيش الإسلام” من مدينة دوما آخر معاقل المعارضة في الغوطة الشرقية، تكون قد طويت تقريبا صفحة “النضال المسلح” ضد النظام في محيط دمشق، بينما يتطلع النظام ومن خلفه، وربما أمامه، كل من روسيا وايران، إلى ما بقي من مناطق قليلة بيد المعارضة السورية في الجنوب والشمال، وقبل ذلك، “تنظيف ” ما تبقى من جيوب مسلحة للثورة في جنوب دمشق ومنطقة القلمون الشرقي، فيما يبدو أنه مسألة وقت ليس إلا، حيث يجري الروس مفاوضات مع ممثلي هاتين المنطقتين، وقد يسفر قريبا كما هو متوقع عن ترحيل المقاتلين فيهما مع عوائلهم الى الشمال السوري.
وبعد وقت لم يطل كثيرا، وتخلله سقوط المزيد من الضحايا المدنيين بالاسلحة التقليدية والكيماوية، توصل المفاوض الروسي الى اتفاق مع “جيش الإسلام” لا يختلف كثيرا عن الاتفاقات السابقة مع بقية الفصائل في الغوطة والمناطق الأخرى، يقضي بترحيل نحو ثمانية آلاف من مقاتلي “جيش الإسلام” مع أربعين ألفا من عائلاتهم ومن يرغب من المدنيين إلى مدينة جرابلس في الريف الحلبي فيما تتم “تسوية” وضع من يرغب بالبقاء في دوما مع “ضمان” عدم الملاحقة وعدم طلب أحد للخدمة الإلزامية أو الاحتياطية قبل ستة أشهر.
كما يقضي الاتفاق بدخول الشرطة العسكرية الروسية كضامن لعدم دخول قوات النظام ويمكن لطلاب الجامعات العودة لجامعاتهم بعد تسوية أوضاعهم، إضافة إلى فتح المعبر أمام الحركة التجارية بمجرد دخول الشرطة العسكرية الروسية، ودخول لجنة من محافظة ريف دمشق لتسوية جميع القضايا المدنية بالتنسيق مع اللجنة المدنية المشكلة في دوما.
وجاء الاتفاق بعد ارتكاب قوات النظام مجزرة في مدينة دوما راح ضحيتها العشرات جلهم أطفال ونساء إثر استهداف منازل المدنيين بالغازات السامة.
انحسار الثورة المسلحة
ويرى مراقبون أن نتائج معركة الغوطة والانكسار العسكري لفصائل المعارضة في محيط دمشق، وخسارة الثورة لمناطقها وحاضنتها الشعبية, وتحولها إلى حالة صراع للبقاء في مناطق تهجيرها ما يعني خروجها عمليا من حسابات الثورة, تتطلب مراجعة حقيقة من جانب قوى الثورة المختلفة العسكرية والمدنية للمرحلة السابقة نحو ابتداع أساليب جديدة لمقاومة سلطة الاستبداد وقوى الاحتلال الروسي والإيراني خاصة في ظل الدور الإقليمي والدولي المتواطئ مع الروس في إعادة تشكيل الخارطة العسكرية والسياسية، سواء عبر مؤتمر أستانة, أو اللقاءات الدولية الثنائية.
والواقع أن انكسار فصائل المعارضة في غوطة دمشق جاء استكمالا لمسلسل سقوط المناطق المحررة بدءا من مدينة حلب في شتاء العام 2016 , ثم مناطق ريف دمشق وحي الوعر الحمصي وتهجير ثوارها وسكانها عبر اتفاقات محلية برعاية روسية, مقابل تعثر المبادرات العسكرية للفصائل في ريفي حماة الشمالي ودمشق نتيجة الخلافات فيما بينها وإصرارها على اعتماد الأساليب الفاشلة نفسها وارتهان معظمها لأجندات اقليمية ودولية.
وترافق ذلك، مع هجوم عسكري وسياسي متقن من النظام وحلفائه أحيط بغطاء دولي تحت ذريعة مكافحة الإرهاب ودفع العملية السياسية التي جرى التلاعب فيها في كل المسارات المعتمدة دوليا مثل جنيف أو التي اخترعتها روسيا مثل استانة وسوتشي، بحيث تكون مجرد غطاء لتمرير الأهداف المرسومة من الحلف الثلاثي (النظام روسيا إيران) قبل أن يتم مساومة بعض الاطراف الاقليمية (تركيا) على الانخراط في هذه الخطط مقابل ضمان مصالحها الخاصة.
والخلاصة أن التطورات الأخيرة مكنت الأسد من إنهاء فكرة تهديد نظامه في دمشق, والحد من خيارات المعارضة لمواجهته، إضافة الى سيطرة روسيا ومعها الميليشيات الإيرانية والقوات التابعة لنظام الأسد على مساحات استراتيجية واسعة في المنطقة المحاذية للعاصمة دمشق، وهو ما يعزز الموقف السياسي لهذا الحلف بعد زيادة مساحة نفوذه الميداني، باتجاه إعادة تأهيل نظام الأسد وتعويمه على الساحة الدولية.
الهدف التالي
وبعد السيطرة على الغوطة، سيواصل هذا الحلف خططه لقضم مزيد من المناطق الخاضعة لفصائل المعارضة وفي مقدمتها جنوب دمشق، والتي يسيطر عليها كل من فصائل المعارضة وتنظيم “الدولة” وكذلك محافظة درعا التي تعتبر حاضنة مهمة للفصائل، إضافةً إلى القلمون الشرقي، ومناطق ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي المحاصرة، فضلاً عن محافظة إدلب، إلى جانب المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة وما تبقى لتنظيم “الدولة” من جيوب شرقي دير الزور.
ومن الواضح أن مناطق جنوب دمشق (يلدا وببيلا وبيت سحم وعقربا) تأتي على رأس قائمة الروس بعد انتهائهم من الغوطة الشرقية، حيث تتواصل المفاوضات بين روسيا وممثلي الأهالي والفصائل العسكرية المعارضة في تلك المنطقة وسط تعزيزات من جانب النظام في محيطها، وتهديدات من جانب روسيا والنظام باللجوء الى الحل العسكري في حال لم تقبل فصائل المنطقة بالشروط المعروضة عليهم للتسوية والتي تشمل تسليم السلاح ومغادرة من لا يرغب بـ”المصالحة” إلى الشمال السوري.
وتقول وسائل إعلام تابعة للنظام ان الاخير يتعامل مع المنطقة بطريقتين مختلفتين، ففي حين يلجأ الى التفاوض المقرون بالحشد العسكري مع فصائل المعارضة الموجودة في يلدا وببيلا وبيت سحم، فإنه لم يفتح بشكل رسمي أية مفاوضات مع تنظيم “داعش” الذي يسيطر على الحجر الأسود، ومعظم أجزاء مخيم اليرموك، فضلا عن أجزاء من منطقتي التضامن والقدم.
وتوقعت وسائل إعلام النظام أن تنتهي الأمور إلى تسوية في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، وإلى عمل عسكري في مناطق سيطرة تنظيم “داعش”، مشيرة الى أن “أغلبية المسلحين بدأوا بالتراجع عن موقفهم بعد سيطرة قوات النظام على الغوطة الشرقية.
وتعيش مناطق سيطرة تنظيم “داعش” تحت حصار مطبق منذ العام 2013 في حين تخضع بقية المناطق إلى حصار جزئي بعد أن عقدت هدنا مع النظام خلال السنوات الأخيرة.
وفي منطقة القلمون الشرقي، التي تنتشر فيه قوات محدودة لفصيلي “جيش الإسلام” وحركة “أحرار الشام الإسلامية” إضافة إلى ثلاثة فصائل من “الجيش السوري الحر” هي “جيش تحرير الشام” و”قوات الشهيد أحمد العبدو” و”أسود الشرقية”، أعلنت الفصائل فيها عن تشكيل “قيادة موحدة”، بالتزامن مع مفاوضات تجري مع روسيا حول مستقبل المنطقة، وسط تهديدات باجتياحها عسكريا ما لم يتم تسليمها للنظام.
وقالت مصادر محلية ان المفاوضات بين الجانبين تأجلت الى أجل غير مسمى، وذلك كما يبدو بسبب انشغال النظام وروسيا بالتطورات في الغوطة الشرقية.
ويعتبر النظام القلمون منطقة استراتيجية كونها نقطة وصل بين عمق البادية ودمشق, كما أنها قريبة من المناطق الحيوية التابعة لنظام الأسد.
القلمون الشرقي منطقة استراتيجية كونها نقطة وصل بين عمق البادية ودمشق, كما أنها قريبة من المناطق الحيوية التابعة لنظام الأسد، وتقع بالقرب من طريق دمشق بغداد وتضم المحطة الحرارية المغذية لدمشق بالكهرباء
كما تتجه أنظار روسيا إلى درعا المعقل الكبير لفصائل المعارضة في الجنوب السوري, ولكنها مع حلفائها لا تستطيع تجاوز منطقة “مثلث الموت”, عقدة الطرق بين محافظات دمشق ودرعا والقنيطرة, لأن عمق مناطق درعا تخضع لاتفاق روسي أمريكي، وبالتالي فإن تحرك روسيا سيكون وفق التفاهمات الدولية التي اتضح ان هناك امكانية لزحزحتها لصالح الخطط الروسية – الايرانية المحكمة مقابل تشظي الطرف الآخر وعدم امتلاكه اية استراتيجية للتحرك، خاصة مع الإعلانات الأميركية المتوالية عن نية واشنطن سحب قواتها من سورية، وترك الأمر كله لروسيا.
ولا يختلف الأمر في مناطق ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي, حيث اجتمع ممثل روسي مع ممثلين عن ريف حماة الجنوبي، وأمهلهم مدة محدودة للرد على ثلاثة خيارات، هي التهجير، التسوية، أو الحرب، إضافةً إلى محاولة النظام التفاوض مع مجموعة أخرى من مدينة تلبيسة، لا تمثل الفعاليات المدنية شمال حمص، ما أثار حالة من الانقسام, وتبدو هذه المنطقة مرشحة لتلقى مصير الغوطة لما تمثله من أهمية استراتيجية بسبب وقوعها في طريق الشريان الاقتصادي للبلاد بين العاصمة والساحل والشمال السوري.
وتبقى محافظة إدلب مرهونة للتفاهمات بين روسيا وتركيا حيث جرى التباحث حولها في اللقاء الذي جمع مؤخرا بوتين وأردوغان وروحاني في العاصمة التركية أنقرة والذي تشير معطياته الأولية لتقاسم مناطق النفوذ, والتخلص من فصائل المعارضة بتغذية الاقتتال الداخلي من جهة, واستمرار الطيران الحربي الروسي بقصف المناطق المدنية لفرض الاستسلام على حاضنة الثورة ريثما تجد الأطراف المعنية بالشأن السوري صيغة حل سياسي بغطاء دولي يضمن مصالح جميع الأطراف.
ضربة أميركية
وبعد استخدام النظام مرة أخرى للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية بالرغم من التحذيرات الدولية له من عواقب مثل هذه الخطوة، تتدارس الإدارة الاميركية القيام برد قد لا يختلف كثيرا إن حصل عن الرد الذي كان بعد مجزرة الكيماوي في مدينة خان شيخون في محافظة إدلب العام الماضي والمتمثل في قصف مطار الشعيرات بصواريخ التوماهوك.
القصف كان بغاز سام يعتقد أنه غاز السارين وأسفر عن مقتل أكثر من مائة وخمسن جلهم أطفال ونساء وإصابة أكثر من ألف مدني بحسب مصادر من مدينة دوما.
وقد عقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اجتماعات مع كبار القادة العسكريين وذلك بعد تهديدات أطلقها ترامب ضد بشار الأسد الذي وصفه “بالحيوان” بدفع ثمن باهظ، عقب الهجوم الكيماوي الذي استهدف مدينة دوما.
وقال زير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس إنه لا يستبعد “أي شيء” بعد هجوم نظام الأسد الكيماوي على مدينة دوما، والذي خلف عشرات الضحايا وأكثر من ألف مصاب” فيما أعلنت بريطانيا أنها تعمل مع حلفائها للاتفاق على موقف مشترك في سوريا بعد قصف دوما بالأسلحة الكيماوية.
أما الأهداف المحتملة للضربة الأميركية فهي تتمثل في أكثر من 25 مطارا عسكريا يستخدمها النظام في استهداف المدنيين في معظم المدن السورية، أهمها مطار الضمير العسكري، الذي خرجت منه المروحيات التي استهدفت دوما بالغازات السامة، وهو ثاني أكبر مطار عسكري في سوريا يقع شرق مدينة الضمير، ويبعد عن دمشق 40 كيلومتر شمال شرق، ومطار الطياس العسكري أو التيفور T4، يبعد 85 كم شرق حمص، ويعد من أكبر المطارات العسكرية في سوريا إضافة إلى مطار حماة العسكري، إلى الغرب من مدينة حماة، ومطار الشعيرات العسكري جنوب شرق حمص ، وهو المطار الذي تلقى ضربة عسكرية كبيرة من الولايات المتحدة العام الماضي، بعدما انطلقت منه طائرة حربية استهدفت مدينة خان شيخون بريف إدلب بصواريخ تحمل غازات سامة، لكن النظام أعاد تفعيله من جديد.
يضاف إلى ذلك، عشرات النقاط العسكرية والمراكز الحساسة العسكرية والأمنية مثل مقر قيادة الفرقة الرابعة، المنتشرة في جبل قاسيون، تتولى الفرقة فعليا الدفاع عن دمشق وريفها، ويبلغ تعداد هذه الفرقة خمسة عشر ألف جندي والحرس الجمهوري الذي يعتبر من أبرز التشكيلات العسكرية التي يقودها النظام، وتتمركز مقراته وألويته حول مداخل العاصمة وفي محيطها، وهو منفصل عن الفرقة الرابعة، لكن يشرف عليه بشكل مباشر بشار وماهر الأسد، إضافة إلى مقر الفرقة الثالثة، في منطقة القطيفة شمال دمشق، وهي واحدة من أقوى الفرق المدرعة والمشاة في سوريا، وقد أصدر بشار الأسد مؤخرا قراراً رئاسياً أصبحت هذه الفرقة بموجبه تابعة له مباشرة، بصفته القائد العام للجيش والقوات المسلحة وليس لرئاسة الأركان، شأنها في ذلك شأن الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.
وسبق الضربة الأميركية المتوقعة، ضربة اسرائيلية استهدفت مطار (تي فور) العسكري شرقي حمص وأسفرت عن مقتل عدد من ضباط وجنود النظام إضافة إلى ثلاثة ضباط إيرانيين.