صدى الشام _ عدنان علي/
طُويت صفحة الغوطة الشرقيّة أو تكاد، بعد نحو شهر من الهجوم الواسع لقوات النظام وميليشياتها على المنطقة، وهو الهجوم الذي دعمته روسيا بقوّة سياسيّاً وعسكريّاً، بينما من المنتظر أن تحصد إيران بالدرجة الأولى نتائجه على الأرض، نظرًا لأطماعها المعروفة بالهيمنة على عاصمة “الأمويين” دمشق وريفها، وتهجير سكانها السنّة، على أمل إحلال سكان آخرين مكانهم على أساس طائفي.
بين الخيار السيّء.. والأسوأ
وبعد أكثرمن شهر شهدَ حملة عسكريّة عنيفة اتّبع خلالها النظام وروسيا سياسة الأرض المحروقة، تمّ تهجير السواد الأعظم من سكان الغوطة ومقاتليها، خاصّة مدن الوسط والجنوب (القطاع الأوسط) إمّا إلى الشمال السوري، أو إلى مناطق نائية في ريف دمشق، وذلك في ظروف صعبة وغير آدميّة، بينما بقي القطاع الشمالي وتحديداً مدينة دوما التي يسيطر عليها “جيش الإسلام” تحت المساومة، مع احتمال أن يشملها المصير نفسه الذي لاقته بقيّة مدن الغوطة، بالرغم من تصريحات قادة “جيش الإسلام” برفضهم الخروج، وأنّ تفاوضهم مع النظام وروسيا هو على البقاء وليس الخروج.
وقد وصلت إلى محافظة إدلب وريف حماة دفعات متتالية من أهالي “القطاع الأوسط” (عربين زملكا جوبر وعين ترما) في الغوطة الشرقيّة على متن مئات الحافلات حملت عشرات آلاف المواطنين والمقاتلين، وذلك تنفيذاً للاتفاق المبرم بين “فيلق الرحمن” وروسيا.
وما ساعد النظام في القيام بموجة التهجير هذه عدم وجود ضمانات من الأمم المتحدة أومن المنظمات الإنسانيّة الدوليّة بشأن مصير من يبقى في الغوطة تحت سيطرة قوات النظام، خاصة مع توالي الأنباء عن اعتقالات واعدامات ميدانيّة لمَن بقي في بعض بلدات الغوطة من جانب قوات النظام، فضلاً عن سَوق آخرين إلى الخدمة العسكريّة في قوات النظام كما حصل لعشرات الشبان في بلدة سقبا، حيث أكّدت مصادر محليّة أن قوات النظام اعتقلت ما يقارب 150 شاباً ورجلاً مطلوبين للخدمة العسكريّة الإلزاميّة والاحتياطيّة وستجبرهم على الالتحاق بصفوفها في وقت قريب، بينما قام عناصر من قوات النظام بنهب مجوهرات عدد من النساء قرب بلدة عين ترما بعد إدخالهم إلى أحد الأقبية بحجة وجود اشتباكات في المنطقة، كما جرت عمليّات “تعفيش” واسعة للمنازل والمحال التجارية داخل مدينة حرستا.
كبرى مدن الغوطة
وبعد اتّضاح مصير مدن وبلدات “القطاع الأوسط” من الغوطة الشرقيّة إضافة إلى حرستا، فإن السؤال المطروح الآن هو حول مصير منطقة شمالي الغوطة، أي مناطق سيطرة “جيش الإسلام” الذي يتمركز خاصة في دوما، كبرى مدن الغوطة، ويعتبر الفصيل الأكبر بين فصائل المعارضة في الغوطة الشرقيّة.
وبعد خساراته البلدات الزراعيّة في الشرق مع بداية الحملة الحاليّة للنظام مثل حزرما والنشابية وحوش الظواهرة والشيفيونية وأوتايا وحوش الزريقية، فقد باتت سيطرة “جيش الإسلام” تنحصر في المناطق العمرانيّة وخاصة مدينة دوما التي تضم اليوم أكثر من مئة ألف نسمة هم سكانها الأصليون إضافة إلى النازحين إليها من المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام علماًأن عدة آلاف منهم، خاصة من المرضى والجرحى، خرجوا إلى مناطق سيطرة النظام خلال الأسابيع الماضية عبر معبر مخيم الوافدين.
وفيما تدور تكهنات حول الخيارات المتاحة أمام “جيش الإسلام” بتوقيع اتفاق تهجير كما فعلت الفصائل الأخرى، أم مواصلة القتال، فقد حسم قائد فصيل “جيش الإسلام” عصام بويضاني الأمر في تسجيل صوتي، مؤكّداً خيار البقاء في الغوطة الشرقية ومناشداً فصائل درعا التحرك العسكري لدعم هذا الخيار وعدم السماح للنظام الاستفراد بفصائل المعارضة ومناطقها الواحدة تلو الأخرى.
وأضاف أن النظام عمد إلى تجزئة البلاد وتقسيمها وتحييد المقاتلين في بعض المناطق حيث يحاول الآن تحييد درعا وإدلب ليتمكن من الانفراد بالغوطة وينهي ملفها، وذلك سيتيح له الانتقال إلى باقي المناطق والهجوم عليها وخاصة أن أعداداً كبيرة من قواته الموجودة في الغوطة ستكون جاهزة لخوض معارك في جبهات أخرى.
وكانت قوات نظام الأسد شطرت الغوطة الشرقية إلى ثلاثة أقسام بعد حملة عسكريّة ضخمة استخدم فيها كل الأسلحة الثقيلة والمحرمة دوليّاً، ما أدى لسقوط حرستا في قبضتها بعد اتفاق قضى بخروج مقاتليها إلى الشمال السوري، وتلا ذلك تقدّمها في بلدات القطاع الأوسط، وتوصلها الى اتفاق مع “فيلق الرحمن” يقضي بخروج مقاتليه وعائلاتهم إلى الشمال السوري، فضلاً عن مقاتلي وعائلات الفصائل الأخرى الموجودة في المنطقة، إضافة “لمن يرغب” من الأهالي.
تهجير أم قتال؟
وقد تردّدت في الأيّام الأخيرة أخبار ومعلومات عن مفاوضات تجري بين ممثلين عن دوما وقوات النظام وروسيا، تتولاها رسمياً ما يسمى بـ “اللجنة المدنية” المشاركة في المفاوضات والتي قالت في بيان لها على “تلغرام ” إنها “تعمل بالتشاور مع الجميع من داخل الغوطة وخارجها، وبالتواصل مع الأطراف المحلية والدولية، للوصول إلى حل يحقق تطلعات الأهالي ويضمن سلامتهم”.
وقالت اللجنة إن لديها “الكثير من أوراق القوة ومن أهمها صمود المدنيين وثباتهم في أرضهم” معتبرة أن “الخروقات التي يرتكبها النظام يومياً ما هي إلا لتخفيض سقف المطالب المحقة لنا بالعيش الآمن في بلادنا”. وأوضحت أن لقاءاتها الأخيرة مع الجانب الروسي تناولت عدة نقاط مثل الأوضاع المزرية لمراكز الإيواء التي يُحتجز فيها المدنيون الخارجون من الغوطة مؤخراً، وتبادل جثث الضحايا من موقوفي عدرا العمالية الذين قضوا تحت القصف الذي استهدف أماكن تواجدهم، والسماح بايصال المساعدات الغوطة، والتأكيد على استمرار وقف إطلاق النار طيلة فترة المفاوضات، إضافة إلى مناقشة بنود المبادرة المطروحة بشأن مصير المنطقة، والتي لم تتضح جميع تفاصيلها، وإن كانت تركز كما تقول مصادر المعارضة على بقاء الأهالي والمقاتلين في بلداتهم، ورفض مبدأ التهجير.
كما ترددت معلومات عن مفاوضات تجري بشكل مباشر بين “جيش الإسلام” وممثلين عن النظام وروسيا، الأمر الذي نفاه الناطقون باسم “جيش الإسلام” أكثر من مرة، غير أن الناطق باسم هذا الجيش؛ حمزة بيرقدار أكد وجود مثل هذه المفاوضات مع روسيا، قائلاً إنها مفاوضات “من أجل البقاء في دوما وليس من أجل الخروج منها”.
وأوضح بيرقدار في تصريحات صحفية أنَّ كلام عصام بويضاني قائد “جيش الإسلام” حول رفض الخروج، جاء من باب رفض سياسة التغيير الديموغرافي والتهجير القسري التي يسعى إليها النظام وروسيا، موضحاً أنه “تم اتخاذ قرار البقاء مهما كانت الظروف، كون النظام يراهن على هذه المنطقة من أجل إسكان شبيحته ومرتزقته فيها”.
ولفت بيرقدار إلى أن الشباب الذين هُجّروا من الغوطة قام النظام بسحبهم إلى خدمته الإلزامية، مضيفاً أن كل من سيفكر بالخروج من الغوطة سيكون مصيره مجهولاً.
وأكّد أنّ “جيش الإسلام” يملك أوراقاً مهمة مثل سلاحه الثقيل والأسرى الموجودين لديه، وقال: “إن تسليم السلاح الثقيل أمرٌ مرفوض تماماً، وتمّ إصدار بيان واضح بهذا الشأن، أما ورقة الأسرى، فنحن نعتبرهم ضيوفاً لدينا، ونوفّر لهم كل مقومات العيش المتوفرة لدينا في ظل هذا الحصار”، مشيراً إلى أن سبب إبقائهم موقوفين هو وجود الكثير من المعتقلين في سجون الأسد، “ولابدّ من العمل على إخراجهم”.
ومن جهة النظام، تتصاعد دعوات لحسم مصير الغوطة نهائياً، مع وعيد بالتوجه الى درعا في جنوبي البلاد قريباً، غير أن بعض المواقع الموالية للنظام عبّرت عن خشيتها على مصير العدد الكبير من الأسرى والمحتجزين لدى “جيش الإسلام” والذي قدرته بـ 3500 شخص، ونشرت تلك المواقع مثل صفحة “عرين الحرس الجمهوري” أسماء المئات من أنصار النظام من عسكريين ومدنيين، قالت إنهم “محتجزون في سجن التوبة بدوما”.
ورأى متابعون أن لدى “جيش الإسلام”إضافة إلى ورقة الأسرى، أوراق قوة أخرى يمكن أن تقوي مركزه في المفاوضات مع النظام أهمها قوته العسكريّة الكبيرة قياساً ببقيّة الفصائل حيث يضم آلاف المقاتلين المدربين والمزودين بأسلحة ثقيلة.
كما لفت آخرون الى الدعم الذي يتلقاه الجيش من السعودية، والذي قد يترجم إلى تفاهم روسي- سعودي بشأن دور سياسي ما يلعبه “جيش الإسلام” في المرحلة المقبلة، بغية تحقيق قدر من التوازن بحيث لا يبدو النظام وكأنه انتصر على “السنة” في سوريا، وأنه بصدد إقامة حكم من لون واحد دون معارضة.
مصير الغوطة والثورة
ويرى مراقبون أن الحملة الروسيّة – الإيرانية على الغوطة وبالتعاون مع قوات النظام استطاعت في المجمل تحقيق أهدافها في إنهاء وجود قوى الثورة العسكرية وتهجير سكانها، بالرغم من عدم حسم مصير مدينة دوما حتى الآن، مشيرين الى أن المرحلة المقبلة ستكون مختلفة عما سبق بعد انتهاء الدور السياسي للفصائل، وخروجها من السياسة المستندة إلى القوة العسكرية، حيث سيكون ما بقي من الفصائل خلال الفترة المقبلة تحت السيطرة المباشرة إما لتركيا (الشمال السوري) أو الأردن (الجنوب) أو الولايات المتحدة (الشرق).
والحال أن المعارضة السياسية ليست أفضل وضعاً من المعارضة العسكرية، بعد اتضاح الدور الهزيل الذي أدته مختلف التشكيلات السياسية التي مرت على الثورة خلال السنوات الماضية بدءًا من المجلس الوطني وصولاً إلى الهيئة العليا للمفاوضات، والتي تمثل جميع الفاعلين الإقليميين والدوليين، لكنها لا تمثل السوريين، وتتمثل وظيفتها في منح الشرعية لأي اتفاق سياسي بين الدول الفاعلة على الأرض، وليس تحقيق مطالب الشعب السوري.
ومن خلال تفحّص الظروف الراهنة والتجارب السابقة، تبدو الدعوات للتوحد ورص الصفوف عقيمة، وربما الأهم اليوم هو عدم منح الشرعية لأيّة خطوة تقوم بها قوات النظام وروسيا وإيران على الأرض، وعدم الموافقة على أي اتفاق سياسي دولي- إقليمي بعيداً عن إرادة غالبيّة السوريين، إضافة للبحث عن صيغ جديدة للعمل السياسي والعسكري والإعلامي بعيداً عن الصيغ الفاشلة خلال المرحلة السابقة.