صدى الشام- شهرزاد الهاشمي/
بعد فشل مقارباتها حيال الملفّ السوري في السنوات الماضية، بدأت تخرج أصوات جديدة من واشنطن تدعو إلى التعاطي بشكل مختلف بل وغير مألوف مع الملفّ على قاعدة توريط اللاعبين الآخرين، بدلاً من الانخراط بشكل كبير في محاولة التأثير عن قرب.
ومن بين هذه الأصوات المحلل البارز في مركز رفيق الحريري في المجلس الأطلنطي، آرون ستين، الذي رأى أنّ سياسة الولايات المتحدة في سوريا ” يجب أن تقوم على رسملة مكاسبها الحربيّة والتفاوض على تسوية ومن ثم مغادرة البلد”.
الرهان الأفضل
لكن لكي يتحقّق كل هذا فإنّ على واشنطن العثور على هدف مشترك مع عدوّتها روسيا وإن كان على المدى القصير. وحتى تفعل هذا عليها أن تعترف بأن بشار الأسد عزّز قوته في معظم أنحاء سوريا الغربيّة وحصل على دعم وضمانات أمنيّة مفتوحة من موسكو وطهران يستطيع من خلالها أن يبقى في الحكم في المستقبل القريب.
وبالنسبة للولايات المتحدة فإن الدافع والمبرر القانوني لوجودها في سوريا كان قتال تنظيم “داعش” ومنعه من الحصول على موطئ قدم له في سوريا والعراق والتأكّد من عدم تخطيطه لهجمات ضد الغرب. إلا أنّ نجاح هذه الحرب طرح سؤالاً معقّداً حول ما تبغي الولايات المتحدة عمله في الفترة المقبلة. وقد دفع التوتر مع كلّ من روسيا وإيران صنّاع السياسة في الكونغرس لدعم وجود أمريكي مفتوح في شمال شرقي سوريا تحت مبرّر منع خسارة الإنجازات التي قاتلت أمريكا وحلفاءها من أجلها تنظيم “داعش”.
ومع أنه من السهل فهم النيّة التي تقف وراء هذه الاستراتيجية إلا أن المنطق الدافع لها يتّسم بالرجعيّة. فالولايات المتحدة وإن كان لديها الحافز لمواجهة روسيا في أي مكان إلا أنها في سوريا خاسرة. فالرهان الأفضل لأمريكا هو التفاوض على انسحاب قواتها بشكل يترك روسيا تتكلف بخسائر ودمار حرب مضى عليها سبعة أعوام. فالنصر الذي ستحققه روسيا هو نصر قصير الأمد. وستمنح تسوية كهذه الفرصة للولايات المتحدة التركيز والتخطيط لاستراتيجية طويلة الأمد ذات منافع جيدة لها. فبدلاً من التورّط بحرب جديدة في سوريا ستقوم الولايات المتحدة بمعارضة روسيا من خلال سياسة احتواء مزدوجة ضد حليفيها في المنطقة وهما دمشق وطهران. وقد تشتمل هذه الاستراتيجية على عقوبات ضد موسكو لتمسّكها بنظام الأسد بشكل يزيد من كلفة إعادة الإعمار وإجبار روسيا على دفع ثمن دعمها لنظام مارق. وقد يساعد هذا الموقف في الشرق الأوسط حلف الناتو على وقف العدوان الروسي على أوروبا الشرقيّة وتقوية الحضور العسكري للحلفاء في منطقة دول بحر البلطيق. ويمكن العمل لتحقيق هذين الهدفين بالتوازي واحتواء نظام الأسد وفي الوقت نفسه وقف التقدم الروسي على أكثر من جبهة.
جهود التسوية
ومن المفارقة، كما يقول الكاتب، أنّ أوّل خطوة لتحدي روسيا هي تسوية الوضع السوري والبناء على الشروط الروسيّة. وحتى تتفاوض الولايات المتحدة على حل يجب عليها منح روسيا ما تريد والتفكير بما تريد مقابله. فالمصلحة الروسيّة تقوم على بقاء الأسد في الحكم وبالمقابل تقوم استراتيجية واشنطن على مقاومة وهزيمة تنظيم “داعش”، ويعتمد حلفاؤها هناك وهم “قوات سوريا الديمقراطية” على “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تدفع باتجاه إقامة كيان للحكم الذاتي. وفي هذا السياق لا ترغب روسيا أو الولايات المتحدة باندلاع حرب بين “قوات سوريا الديمقراطية” والنظام.
ويضيف الكاتب أنه بالنسبة للروس ستؤدي المواجهة بين حليفها والأكراد لإطالة أمد الحرب وقد تجرّهم لمواجهة الأكراد الذين لا رغبة لها بقتالهم خاصة أنهم لا يهدّدون أرضها. ومن ناحية الولايات المتحدة فالتحدي الأكبر هو الكيفية التي ستخفّف فيها التوتر بين الأسد والأكراد بدون أن تهمّش تركيا؛ عضو الناتو وشريك روسيا في محادثات أستانا والمعادية لـ “قوات سوريا الديمقراطية”.
ويرى الكاتب أن العمليّة التركيّة في عفرين أثرت على المراحل الأخيرة من الحملة الأمريكية ضد تنظيم “داعش” وزادت من التوتر بين تركيا وحليفي روسيا، وهما نظام الأسد وإيران. وبعد سيطرة تركيا على عفرين فقد لا يكون هناك مجال للتوافق على موقف واحد. ويرى الكاتب أن على الولايات المتحدة توسيع إطار المفاوضات ليضم “قوات سوريا الديمقراطية”. وستدعم روسيا والولايات المتحدة إطار المفاوضات ويمكن ضمّه لمحادثات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة. وستؤدي خطوة كهذه لضم الأكراد إلى جهود التسوية وإجبار تركيا على التفاوض من أجل تسوية خلافاتها مع “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي يسيطر على مناطق شمال شرقي سوريا.
انسحاب بهدف الضغط
ومن أجل مواصلة الضغط على نظام الأسد، فقد تستفيد واشنطن من الإتفاق الذي أسهمت روسيا به، وهو تخلي النظام السوري عن أسلحته الكيميائية عام 2013 وانضمامه لمعاهدة الحد من انتشار السلاح الكيميائي. وساعدت روسيا في عملية التفاوض ولكنها عرقلت كل الجهود لتحميل النظام مسؤوليّة خرق التزاماته في المعاهدة. وعلى الولايات المتحدة فرض عقوبات على النظام لاستمرار استخدامه الأسلحة الكيميائية وفرض عقوبات مماثلة على الشركات الروسيّة التي تزوّد النظام بقطع الغيار للطائرات التي تحمل السلاح الكيميائي. كما أنّ عليها العمل مع دول المنطقة لوقف تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج إلى نظام الأسد. وسيمنح هذا المدخل الولايات المتحدة الضغط على الأسد وتوسيع أهداف منع انتشارالسلاح الكيميائي وفرض عقوبات على كوريا الشمالية التي تواصل إرسال أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البالستية إلى سوريا.
والتحدّي هو قبول الولايات المتحدة بأن انسحابها سيحرّر يدها للضغط على النظام وإيران وروسيا، وسيرث الأسد بانسحابها تمرداً على وتيرة خفيفة واقتصاداً مدمراً وبنية تحتيّة في المناطق الحضرية غير صالحة للاستخدام. ويجب أن لا تساعد واشنطن في مهام إعمار البلاد بل وترك روسيا تتحمل مسؤولية البلد الذي دمره وكيلها. ويرى ستين أن واشنطن ستجد فرصة للتركيز على ما هو جيد لها في الشرق الأوسط وأوروبا وهو إدارة التحالفات. فمركز السياسة الأمريكيّة قام على علاقات قويّة مع دول الخليج وإسرائيل بقوات أمريكيّة في المنطقة. ولن تجد واشنطن صعوبة في عزل دمشق وموسكو، فقد استخدم النظام السلاح الكيميائي أكثر من مرة ضد المدنيّين فيما استخدمت روسيا غاز الأعصاب لاغتيال عميل روسي على التراب البريطاني.
والدولة الوحيدة التي تقوم بنشر الأسلحة الكيميائية هي كوريا الشمالية، والتي ستكون ثمرة جاهزة للقطاف من خلال العمل بجبهة موحّدة مع الحلفاء. وتظل إيران التي ستكون مذنبة من خلال دعمها للنظام السوري، ولدى الولايات المتحدة تاريخ في فرض العقوبات على “الحرس الثوري” ويجب أن تواصل عقابه وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بالقيود على المشروع النووي. وفي أوروبا فقد ظل أساس العلاقة معها منذ عام 1949 بنداً في معاهدة حلف الناتو، وهي المادة الخامسة التي تقول :”أيّ هجوم مسلح على دولة أو أكثر.. في أوروبا وأمريكا الشمالية يجب أن يُعتبر هجوماً على الجميع”. وعليه فالعدوان الروسي من تسميم العميل الروسي السابق إلى ضم شبه جزيرة القرم يؤكدان أهمية مواصلة التخطيط للدفاع وإعادة إحياء قدرات الناتو القتاليّة والبنى التحتيّة عبر أوروبا. وتظلّ سوريا عرضاً جانبياً في الجهود الأوسع الراغبة في احتواء موسكو. ويجب، والحالة كذلك، عدم المبالغة في تقدير الأمر عندما يتعلق بكيفية دفع أو ردع عدوان روسي مستقبلي. وحتى تحل أمريكا النزاع السوري في أسرع وقت عليها أن تقدم لروسيا شيئاً في المقابل. وستكون تلك محاولة لإعادة تعديل السياسة تجاه احتواء روسيا وحلفائها في الشرق الأوسط والضغط على روسيا في أكثر من جبهة. ويجب أن يكون الضغط متعدّد الوجوه بدءً من تحمّل روسيا عبء فاتورة إعمار سوريا التي دمّرتها الحرب، والتوسع لتعميق التحالفات في الشرق الأوسط وأوروبا. وعلى المستوى الدولي فتملك الولايات المتحدة موقفاً قوياً طالما لم تتورط في حرب تملك فيها روسيا كل الأوراق.