حاوره: مصطفى محمد/
لم يكن شغفه في فن الخط العربي وحده، بل تعداه إلى الرسم والبحث التاريخي، فهو يطرق أبواباً فنية وجمالية غير مطروقة من قبل، ويواصل مشواره الفني انتقاماً من حاضر أسود يصبغ سماء وطنه سوريا.
في إستانبول التي أحبها كما لو كانت مدينته حلب، اختار الخطاط السوري شادي عيد أن ينازل الأتراك فنياً وتراثياً في عقر دارهم، وكان له ما أراد، لكن بعد عناء طويل، وبحث شاق في الأرشيف والمكتبات والأزقة التركية العتيقة.
الخطاط العالمي شادي عيد خصّ “صدى الشام” في لقاء ممتع، وهذا نص الحوار الكامل:
– البدايات كانت من خلال رسم جداريات بسيطة، لو تحدثنا عن الكيفية التي طورت بها موهبتك، وكيف انتقلت إلى الخط العربي؟
في طفولتي المبكرة كنت مولعاً بالرسم، وكنت أرسم على الجدران بمعدات بسيطة، ومع مرور الوقت كنت أطور موهبتي بنفسي، لكن بعد أن أدخلت عليها الخط العربي، إلى أن بدأت دراستي في مدينة حلب، وتعرفت على خطاط مجاز من قبل شيخ الخطاطين حسن شلبي، الخطاط الأول في العالم، وسمحت لي الظروف حينها بالتتلمذ على يديه لمدة خمسة أشهر، وحينها بدأت بالمشاركة في معارض فنية على مستوى مدينة حلب، ومنها دخلت رسمياً في هذا المجال، وبدأت في مشوار البحث عن المراجع التاريخية.
– لك حكاية مؤلمة مع حرب غزة في العام 2008، تطرقت لها الصحافة المحلية حينها في “موقع عكس السير”، لو حدثتنا عنها؟
في تلك الأيام كنت طالباً في كلية الاقتصاد بجامعة حلب، كانت الحرب على أشدها وكنت كشاب مندفع أبحث عن طريقة لمساعدة أهلنا في غزة، وحينها خطر لي أن أقيم معرضا فنيا في جامعة حلب، حتى يتسنى لي بيع لوحاتي، وتحويل ثمنها إلى أطفالنا في غزة.
في حينها بحثت عن راعين وداعمين للمعرض، لكني صدمت عندما رفضت الجهات الأمنية الترخيص للمعرض، ومنها بدأت الأفرع المخابراتية تستدعيني للتحقيق.
كانت الصدمة قوية بالنسبة لي، فحينها كان النظام يتاجر بدعمه لأهلنا في غزة، لكنه في الوقت ذاته يمنع مشروعاً فنياً داعماً لصمودهم.
– وما هي الحجج التي برروا من خلالها عدم منحك الترخيص والموافقة؟
كانوا يتذرعون بأن الأوضاع الأمنية لا تسمح بقيام مثل هذه التظاهرة، وأكثر من ذلك سبب طرح القضية على الإعلام من خلال موقع “عكس السير” متاعب جمة لي، من بينها اتهامي بأني على علاقة مع عبد الحليم خدام.
لكن على المقلب الآخر حظي التقرير الخبري بمتابعة عالية، وبدأت الاتصالات تأتي إليّ من شخصيات فنية وتجارية من خارج البلاد، وبدأت عروض العمل تنهال علي، إلى أن وافقت على عرض عمل في المملكة العربية السعودية، بعد تخرجي من الكلية.
– تفيد المعلومات بأن لك مساهمة بتوسعة الحرم المكي ما قبل الأخيرة في السعودية، صحيح ذلك؟
نعم، عملت هناك مع شركة “بن لادن” في توسعة الحرم، وخططت الكلمات التي وضعت تحت ساعة برج الحرم في مكة المكرمة، طبعا كان العمل ضخما جداً، وعلى سبيل المثال كان طول حرف الألف يصل لحوالي 16 مترا، وبخط اليد.
مع ذلك لم أجد الراحة في المملكة بسبب الحرارة المرتفعة، ومنها انتقلت إلى لبنان
للعمل في غاليري فني مملوك لابنة نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، وحينها بدأت الثورة السورية. ورغم كل الخطر المحدق كنا نشارك بالمظاهرات أمام السفارة السورية في بيروت، إلى أن بدأت التهديدات تطالني، وقتها فقط قررت العودة إلى سوريا للمشاركة في الثورة.
– في حلب لك مساهمات فنية وخصوصاً في مجال التصميم وكتابة اللافتات الثورية، لو تطلعنا على بعضها أيضاً؟
بعد تصميمي لشعارات كثير من التنسيقيات المحلية في حلب وريفها، تعرضت للملاحقة من قبل المخابرات مع بداية الثورة، وتمت مداهمة بيتي لأكثر من مرة، وحينها لم يكن للثوار مناطق محررة، ومنها اتجهت إلى تركيا.
بعد تصميمه لشعارات كثير من التنسيقيات المحلية في حلب وريفها، تعرض الخطاط شادي عيد للملاحقة من قبل المخابرات، وتمت مداهمة بيته أكثر من مرة.
– في تركيا كان لك عمل في خدمة الجرحى ومتابعة مشوار علاجهم في المشافي التركية، لكن ما لبثت أن عدت إلى دراسة الخط، ما الذي دفعك لمتابعة عملك الفني هنا؟
من خلال مسيرة عملي تشكلت لدي شبكة معارف جيدة، والكل يعلم أنه لم تكن هناك متابعة لأوضاع الجرحى في تركيا في ذلك الوقت. كان عملي مقتصراً على متابعة شؤونهم، وتولي الإنفاق عليهم من خلال تواصلي مع داعمين. طبعاً في هذه الأثناء تعلمت اللغة التركية، وانشغلت عن متابعة هوايتي.
مضى حوالي عام وأنا منهمك بمتابعة الجرحى في مدينة استانبول التركية، إلى أن طلب مني صديق يمني قديم أن أذهب معه إلى جامعة السلطان محمد الفاتح في استانبول لمساعدته بالترجمة للتسجيل بالدراسات العليا، باعتبار أني أجيد اللغة التركية.
في الجامعة التقيت بعميد كلية الفنون الجميلة، وللمصادفة كان عميد الكلية المختص بالخط العربي من الأشخاص الذين التقيت بهم في أحد المعارض الفنية في العام 2007 في سوريا، ونصحني حينها بأن أتابع دراستي العليا هنا.
في سوريا كانت القوانين لا تسمح بدراسة الدكتوراه إلا في مجال تخصصك، لكن هنا فالقوانين لا تمنع هذا، ولذلك وبعد تشجيع طويل من عميد الكلية، قررت مواصلة تعليمي في المجال الذي أحبه.
– كانت رسالة الماجستير التي قدمتها فريدة من نوعها، وخرجت بحقائق جديدة متعلقة بالنسخة العثمانية الأولى من المصحف، نريد أن تشرح لنا بما خرجت به؟
في الجامعة التقيت بشيوخ الخط العربي، وبدأت بتطوير قدراتي في السنة الأولى، وفي السنة الثانية بدأت بالبحث عن موضوع لرسالة الماجستير، كان لدي هاجس بأن ألفت أنظار الأساتذة إلى موهبة السوريين، وخصوصاً أن كم التشويه الذي لحق بالسوريين في تركيا كبير جداً.
بعد مشوار بحث طويل، قررت أن تكون رسالتي عن الخطاط محمد شكر زادة الذي عاش في القرن السابع عشر في زمن السلطان أحمد الثالث والسلطان محمود الأول.
طبعاً كان كمّ المعلومات المتوفرة عنه قليل جداً، وهنا كانت نقطة القوة في الرسالة. وبالفعل، مرت ثمانية أشهر ولم أعثر على معلومات تاريخية عنه، رغم بحثي عنه في كل أنحاء العالم، بما فيها مكتبة الكونغرس الأمريكية، وبعد أن تمكن اليأس مني بدأت المعلومات تصل لي تباعاً، من خلال البريد الإلكتروني.
مع وصول المعلومات بدأت بالدراسة، وكان لا بد من العمل على أشهر أثر لزادة “النسخة الأولى العثمانية المطبوعة للقرآن الكريم”، وهنا أود أن أشير إلى أن كل الوثائق العثمانية تشير إلى أن النسخة الأولى كانت بخط زادة، لكن ما خرجت به يبيّن وبالأدلة القاطعة، أن النسخة التي كتبها زادة لم تعتمد، ولكنها أهملت.
– نتحدث هنا عن خطأ تاريخي متعلق بالدولة العثمانية، ولذلك نريد توضيحا أكثر؟
الإشكالية وقعت كالتالي: أمر السلطان أحمد الثالث الخطاط محمد شكر زادة بالتوجه
إلى المدينة المنورة، حيث تتواجد النسخة التي كتبها الشيخ حمد الله الأماسي، وهو الخطاط الأشهر في الدولة العثمانية، لكتابة نسخة طبق الأصل من الناحية الفنية والجمالية عن النسخة التي كتبها الأماسي الموقوفة للمسجد النبوي.
توجه شكر زادة إلى المدينة وكتب نسخة طبق الأصل عنها، لكنه وبعد مدة طويلة عاد لإستانبول ليجد السلطان أحمد الثالث معزولاً، وإلى هذا التفصيل تنتهي المعلومات عن تلك الفترة.
بعد حوالي 160 سنة من تلك الحادثة، يأتي أحمد جودت باشا، صاحب ديوان المعارف (وزير التعليم حينها)، وهو أكبر مؤرخ في الدولة العثمانية، ويكتب في مذكراته حينها أنه هو من أعطى الأوامر لطباعة النسخة الأولى من القرآن التي كتبها شكر زادة في المدينة المنورة.
بعد البحث الشاق عثرت على إحدى النسخ الأولى، ووجدت في آخرها كلمات تقول “كتب بأمر من السلطان محمود الأول”، وهنا اكتشفت الخطأ، لأن شكر زادة حينها لم يكتبها بأمر من السلطان محمود الأول، بل بأمر السلطان أحمد، وبالتالي لم ينتبه أحد لأمر هذا الخطأ.
– إذاً أين هي النسخة التي كتبها الخطاط محمد شكر زادة؟
الإجابة على هذا السؤال استغرقت بحثاُ طويلاً، في إستانبول وفي كثير من المدن والعواصم الإسلامية لكن دون جدوى، وأصبح هذا الأمر بالنسبة لي بمثابة التحدي، إلى أن عثرت عليها في المدينة المنورة.
– تود أن تقول أن زادة لم يأتِ بها إلى إستانبول؟
لا، بل جاء بها إلى إستانبول، لكن عندما عاد وجد السلطان الذي أمره بكتابتها معزولاً صار لدينا احتمالين، الأول أن يكون أعطاها للسلطان محمود، وبدوره أعطاها للسلطان أحمد الثالث المعزول، أو أن يكون أعطاها للسلطان أحمد.
بالعودة إلى النسخة وبعد معاناة طويلة مع المسؤول عن المكتبة التي تتواجد فيها النسخة بالمدينة، استطعت تصويرها والبحث فيها.
– كيف عادت للمدينة إذاً؟
هنا اللغز، ما كتب على جلد النسخة كان كالتالي، “وقف هذه النسخة اسماعيل باشا راتب”، وهنا بدأنا البحث عن هذا الباشا الذي حصل على نسخة نفيسة مذهبة كتبت بأمر من السلطان.
بعد البحث الطويل أيضاً، تبين لي أن الوزير الأعظم للسلطان أحمد الثالث كان اسمه أحمد راتب باشا، وتزوج حينها ببنت السلطان، وحين تولى السلطان محمود الأول السلطنة كان أحمد راتب على رأس عمله، بالتالي قد يكون أحمد بعد أن حصل على النسخة قد أهداها لابنته عائشة زوجة الوزير الأعظم، أو أن يكون أعطاها للسلطان محمود وبدوره قد يكون أهداها للوزير الأعظم باعتبار أنه لم يأمر بطباعتها، بالتالي صارت لدى جد اسماعيل باشا راتب الذي وقف هذه النسخة للمسجد النبوي.
– كيف كانت ردة فعل الأتراك على هذه الحقيقة؟
لقد وقعوا في هذا الخطأ ظناً منهم أنهم طبعوا القرآن بناء على النسخة التي كتبها شكر زادة، لكنهم طبعوه بنسخة ثانية كتبت بإستانبول، وهذا الأمر أبهرهم.
ظن الأتراك لمدة طويلة جدا أنهم طبعوا القرآن بناء على النسخة التي كتبها شكر زادة في المدينة المنورة، بناء على طلب السلطان أحمد الثالث، لكنهم كانوا في الحقيقة قد طبعوه بنسخة ثانية كتبت بإستانبول
– وماذا عن علم السطر وتأطيره، لك مساهمات أيضاً، لو حدثتنا عنها؟
منذ أكثر من ألف سنة، أي منذ بداية فن الخط العربي وللآن، لم يدّرس علم السطر كعلم، بالتالي ومن خلال رسالة الماجستير وضعت ثلاث نظريات وتحولت إلى قواعد ثابتة في هذا الفن، وبالتالي هذا العلم كان موجودا نظرياً فقط، لكن بعد تقعيدي لهذا الفن، صار علماً بحد ذاته.
– وماذا بعد الماجستير؟
حالياً أتابع في دراسة الدكتوراه بعد أن تم قبولي بدون اختبار، وبقي لدي كتابة رسالة الدكتوراه، وأود أن أشير هنا إلى أني أن هناك شخص واحد قد سبقني إلى حمل رسالة الدكتوراه في هذه الاختصاص على مستوى الوطن العربي.
– في سياق مواز أيضاً، كيف استطعت التوفيق بين الأدوات الكلاسيكية أي الحرف العربي، وبين الحداثة في الرسم؟
الرسم بالخط الكلاسيكي بطريقة تشكيلية هو نوع جديد أيضاً وغير مطروق على المستوى العالمي، فضلاً عن دراسة الأثر النفسي للخط على الإنسان.