الرئيسية / رأي / لن نموت

لن نموت

ثائر الزعزوع

لم يتبق بلد في العالم لم يرسل قواته للمشاركة في الحرب الدائرة فوق الأجواء السورية وعلى أراضيها، حتى باتت الأجواء مزدحمة، واقترح أكثر من رسام كاريكاتير أن يتم تعيين شرطي سير لتنظيم حركة الطائرات كيلا تحدث حوادث تصادم أو تجاوز تؤدي إلى خلل في المعادلة، كما حدث منذ أيام حين تاهت طائرة روسية فأسقطتها القوات التركية. وقد أدى الحادث إلى ما يعلمه الجميع من توتر واضطراب لا بين البلدين فقط، بل بين المحورين العالميين اللذين بدءا يتشكلان فوق الجغرافيا السورية. هذان المحوران الغاضبان، وكلاهما على حق، لن يستطيعا بكل تأكيد، الوصول إلى حلول ترضيهما، ولذلك يستمران بالتقاتل مستخدمين الكائن السوري كأداة جيدة ورخيصة للموت، فهو ليس مكلفاً بطبيعة الحال. والمحوران كلاهما يقومان بتصفية حساباتهما وعقد الصفقات على حساب دمائنا، وقد يتذكر متحدث في وقت ما أن يصرح وبشكل سريع، أن نزيف الدم السوري يجب أن يتوقف، لكنه لا يقصد ما يقوله حرفياً، فهو يقصد أن الطرف الآخر يجب أن يعترف بهزيمته ويغادر الساحة، هذا كل ما في الأمر. وإذا كنت في مقالتي السابقة قد استبعدت وقوع حرب عالمية ثالثة، فإنني متأكد الآن أن تلك الحرب لن تقع، وأن نزيفنا اليومي سيتواصل، لأن المطلوب بكل بساطة، هو عودة السوريين إلى الحظيرة، وقبولهم بالاستسلام، والتخلي عن فكرة الثورة، وأن يعلنوا توبتهم عن كل هتاف هتفوه وكل شعار رفعوه، لأن العالم لا يقبل الثورات. النظام العالمي لا يريد أن تصحو الشعوب. ثمة منظومة تم بناؤها منذ عشرات السنين، تخطط وتبرمج، وقد حولت تلك المنظومة الكائن في كل الكوكب إلى مجرد أداة يتحرك وفق خطط معينة، وأي ثورة تحدث مهما كانت صغيرة، تعتبر خللاً في البرنامج، وينبغي إعادة ضبط المصنع ومسح ذاكرة الكمبيوتر كلياً. لأن الثورة، وإن كان هذا الكلام ثقيلاً، هي فيروس خطير يدمر الرتابة والنظام. وكنت كتبت في هذه الزاوية أيضاً أن العالم كله يقف ضد الثورة، وإن التأييد الشفوي لها من بعض الدول لا يعني أنها ستكون سعيدة بانتصارها، بل إنها تتحين الفرض للانقضاض عليها وتحطيمها، فالثورة ليس مسموحاً، العالم يشبه البيت بتفاصيله ثمة أب حاكم وأم تمثل حكومة وأولاد محكومون، أي خروج عن سلطة الأب، تحاول الحكومة السيطرة عليه، وعندما تفشل يترك الأمر للأب الذي يمارس سلطته المطلقة بحرمان المتمرد من المصروف أو الخروج، حتى يعود إلى رشده ويقبل بالانصياع للقرارات، وهذا تماماً ما فعلته سوريا بالعالم؛ لقد أحدثت ذلك الخلل غير المرغوب به، هي تمردت على سلطة العالم، أحدثت ذلك الخلل، وكان لا بد من معاقبتها. وقد كانت عصابة الأسد تدرك هذه الحقيقة جيداً، ولذلك دفعت الثورة لحمل السلاح، ودفعت الثورة لارتكاب الأخطاء، ودفعت الثورة للفرار بشكل جماعي من سوريا، ووضعت الثورة في الأقبية المظلمة وسربت صور التعذيب للعالم كي يرى عقاب من يثور: سنسلخ جلدك عن عظمك…

 

هل كان أحدنا يتوقع هذا الويل كله؟ بكل تأكيد لا. لماذا؟ لأن الثورة وفق التعاريف الساذجة التي تم تلقينها لنا منذ كنا أطفالاً هي انقلاب يقوده عسكري على رفاقه فيضعهم في السجن ويجلس على كرسي الحكم، ويقول إن ما فعله ثورة؛ عبد الناصر، حافظ أسد، الثامن من آذار، السيسي، كل هذه الانقلابات تحمل تسمية ثورات، لكن فكرة غريبة هي التي كانت تسيطر علينا، نحن خرجنا لاقتلاع كل شيء، كل شيء، ما معنى هذا؟

 

معناه أننا سنحدث خللاً في كل شيء، وأن الأشياء التي ستتأثر ستحاول جاهدة أن تسيطر على الوضع، قبل أن “يصل البل لدقونها” كما يقال بالعامية. فالأسرار ستكون مباحة، والعلاقات الدولية ستأخذ شكلاً جديداً، لا إسرائيل ستكون هادئة مطمئنة، ولا إيران ستتمكن من مواصلة مشروعها الاستعماري الناعم الذي كانت تنفذه بكل هدوء ودون قلق. وحتى الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، كلهم كانوا يريدون أن يلجموا هذا التمرد. ما فعلوه بثورة ليبيا خير دليل، لقد فتتوها، عبثوا بها، وحولوا ليبيا إلى أرض للخراب بعد أن نجحت ثورتها في استئصال الديكتاتورية، وهذا ما رسموه لسوريا، لقد سقط بشار الأسد منذ الأشهر الأولى للثورة، لكن النظام العالمي استطاع إبقاءه جالساً على كرسيه، بل واستطاع تحطيم سوريا كلها كيلا تنجح ثورتها. فالثورة سرطان ينتشر ويمتد، فيروس لا يمكن معالجته بسهولة… كل هذا القصف اليومي، والدواعش، والتنظيمات التي “خرجت لنصرة هذا الدين”، والميلشيات والمرتزقة، ومع هذا ثمة كثيرون ما زالوا يؤمنون بالثورة، ثمة ملايين ما زالوا يرفضون العودة إلى الحظيرة، ولهذا فنحن لن نموت… الثورة مستمرة.

شاهد أيضاً

المقاومة وقداستها

عبد العزيز المصطفى تذكرُ كتبُ الأساطيرِ أنّ ملكًا استدعى أحد مستشاريه في ساعة متأخرة من …

فلنختار ظرف ومكان موتنا

عبد العزيز المصطفى خلال الحرب العالمية الثّانية كان الشغلُ الشاغل لهتلر هو كيفية القضاء على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *