أحمد
إسماعيل إسماعيل
1- مقايضــة:
يقف قبالة المرآة بوجهه الأسمر، يطالعه
وجه مطاطي، يستدير الوجه، يتربع، يستطيل وتجري المقايضة بين الوجهين سريعاً.
يستدير الوجه لبنت الجيران.. فتبتسم له.
ويتربع لشيخ الجامع.. فيبارك به.
ويستطيل لصديقه.. فيهلل له.
ويتثلث لرب العمل.. فيثني عليه.
وإن نسي اللعبة يوماً.. تعبس الوجوه
كلها، وتشيح عنه بجفاء.
وحين يلعن شؤم اليوم .. يطالعه الوجه
المطاطي في المرآة: يستدير، يتربع، يستطيل..وينفجر
بقهقهة ساخرة.
2- حلــم :
ذات
صباح، حين أسند ظهره إلى جدار، ومسح حبيبات العرق عن جبينه، وبرقت عيناه بنظرات
حلوة، وافترَّ ثغره عن ابتسامة عذبة.. مطَّ رقيب شفته السفلى باستغراب و.. مضى.
ذات مساء، حين حلم بسماء زرقاء، وبمداعبة كف
امرأة ناصعة البياض.
اقتحم
الحسيب حلمه، واعتقله بالجرم المشهود.
3- مأساة فزاعة
يا
للهول..؟!
شهقت
فزاعة بهلع وهي تبصر حشرة صفراء كبيرة تحطُّ على نبتة يانعة في الحقل، فانتفضت
بغضب تريد تمزيق الدخيلة.. فلم تستطع حراكاً، وأحست بأنها مغروسة في أعماق التربة
كشجرة هرمة.
حاولت
أن تصرخ بأعلى صوتها تطرد الحشرة، تلعنها، تشتمها.. فلم يندَّ عنها صوت، وأحست حينها بخلوِّ فمها
المطبق من اللسان.
يا
للهول!!
شهقت
الفزاعة مرة أخرى بعجز وخوف، وراحت ترقب الحشرة وهي تتنقل بين نباتات الحقل
الخضراء. وأمست الحشرة حشرتين، ثلاث حشرات.. أسراب حشرات صفراء، راحت تهاجم الحقل،
تقضم النباتات بشراهة على مرأى ومسمع الفزاعة المغلوبة على أمرها.
واستمر
الحال لليال عديدة..
وفي
أحد الأصباح جاء صاحب الحقل، فصعق لمرأى نباتات حقله ذابلة، مصفرة، شهق لهول ما
رأى، جنَّ جنونه، وراح
يشتم، ويركلُ الفزاعة حتى تهاوت على الأرض، وهي تحدّجه بنظرات الحسرة
والغبن.
4- ملوك:
مات
كلب الملك،
فأقيمت
في المملكة مجالس العزاء أياماً وليالي، وتقرحت عيون الوزراء، والولاة، والحجاب من
كثرة العويل.. وتسربل
الشعب بالسواد.
مات
الملك.
احتفى
الجميع بالملك الجديد، وانتفخت أكف الوزراء، والولاة، والحجاب من كثرة التصفيق.
وبقي
الشعب متسربلاً بالسواد
5- وحشة:
لا تمت،
أطلق صرخة
مكتومة بعد أن انقطع الصوت الذي طالما آنسه، ووسط الظلمة الكثيفة التي ابتلعته،
راح يتلمس بأصابع مرتعشة، وقلب منقبض، كل ما يقع حوله، وقبل أن تعاود الوحشة
افتراسه، ويثقب الصمت أذنيه. أعاد أصابعه الخائبة إلى جسده المتكوم ككرة، وحبس
أنفاسه، وراح يرهف السمع، علّه يحظى في زنزانته الضيقة والمعتمة على صوت صرصار
آخر.
6- فوتو كوب:
حين دخلت إلى محل التصوير قررت ألا أسمح للمصور أن يرتب لي هيئتي، كعادته في كل مرة، قلت في نفسي:
– الصورة
صورتي، وليست صورته هو، وحين يلتقط لنفسه صورة فليتخذ الوضعية التي يشاء، ليبتسم أو
ينفش صدره كما يحلو له، أما أنا.. فلا.
لن تكون هذه الصورة أيضاً مشابهة لعشرات
بل مئات الصور التي التقطها لي ولغيري من أبناء المدينة وزين بها واجهة محله:
صدر منفوش، وابتسامة عريضة، ونظرة بلهاء
تحدق في عين الكاميرا.
جلست على الكرسي، واتخذت من فوري
الوضعية التي كنت قد قررت اتخاذها، غير أنه، ودون أن يدقق في الهيئة التي اتخذتها،
مدّ يده نحو رأسي، عدل من وضعيته، ثم راح يعدل من وضع صدري ويدي بألية وكأن الذي
أمامه دمية أو قطعة من صلصال، عاد بعدها إلى مكانه خلف كاميرته، وعلى الرغم من
ثباتي على الشكل الذي أراده لي، إلا أنني كنت مشحوناً بالحنق والتمرد.
وقررت ألا أنفذ رغبته حين يطلب مني تعيير
تعبير وجهي.
نفذت رغبتي رغم طلبه برسم ابتسامة على
وجهي، وفجأة، وحين وجدت عين الكاميرا مصوبة نحوي، وضوء خاطف ينبعث منها، انبثق في
داخلي شعور يشبه الجفلة، اتقد وجهي من شدة الحرارة، وأصبح أشبه بقطعة حديد محماة.
مضى يوم أطول من سنة وأنا أنتظر ظهور
الصورة. وكم كانت سعادتي كبيرة حين ظهرت الصورة وابتسامة عريضة ونظرة بلهاء ترتسمان
على وجهي الجامد في هذه الصورة أيضاً.
7-خيبة:
من نافذة في أعلى بناء شاهق لاحت لنحلة قادمة من البراري العذراء
زهرات جميلات.
ضربت النحلة الهواء بجناحيها الرقيقين، وحلقت صوبها عالياً، أحست
بالتعب يثقل جناحيها، وخشيت أن تهوي من شدة ما أصابها من إرهاق.. لكنها تماسكت وراحت
تحلم برحيق تلك الزهرات الجميلات.
فاض قلبها بالسعادة والسرور وهي تحط إلى جانب زهرات حمراء، وصفراء،
وبيضاء..التفت حول بعضها، بإتقان وروعة فائقة. سحرها المنظر، فاندفعت نحوها بشوق،
وراحت تلامسها زهرة زهرة ملامسة رقيقة، فوجدتها قاسية، يابسة كقطع من خشب لا رائحة
فيها.
أدهشها الأمر، وأفزعها، فحامت من جديد حول الزهرات الجميلات، وحطت
عليها عسى أن تجد بغيتها.. لكن دون جدوى.
انتابها شعور عارم بالحزن، والخيبة، فتركت النافذة العالية، وأزهارها
المتصلبة، واتجهت نحو البراري البعيدة غير آبهة بالأزهار الكثيرة التي كانت تزين
نوافذ وشرفات الأبنية العالية.