الرئيسية / رأي / في ثقافة الشعر والثورة

في ثقافة الشعر والثورة

ميسون شقير/

بكل ما في الشعر من كسر للنمطي من الكلام، ومن قدره هائلة على الاكتشاف الذي يجدد نفسه من نفسه، ومن قدرة عالية ومثيرة على الدخول للأعماق وللكهوف التي تسكنها، بكل ما فيه من جرأة بمواجهة الذات مثلما هي جرأة لمواجهة الآخر، الآخر الذي هو بالنهاية جزء حقيقي منا مهما كان غريبا أو مختلفا، أو قريبا حد التشابه القاتل، ولمواجهة الطبيعة كاكتشاف قوتها التي نسكن فيها وتسكن فينا.

بكل هذا وبالطفل الذي يسكن دائما روح الشعر ويجعله بحالة رفض دائم للأوامر المعطاة والملقنة، والذي أيضا يجعله بحالة تمرد عفوية فطرية ترافق كينونته المشاغبة، وتلتصق دائما طبيعته المشاكسة اللعوب، بأحلام اليقظة التي يعيشها ذلك الطفل وبألعابه التي دائما يعيد تشكيلها بنبوءة البراءة، وببراءة الصرخة الأولى؛ صرخة السقوط الأول لهذا العالم، وصرخة الموت والولادة معا في لحظات العشق والوصول فيها لأبعد سماء، وفي لحظات المواجهة والتحدي. تلك الصرخة العفوية التي تبنع من كل الكهوف التي بداخلنا حين نثور لظلمنا، بكل هذا يصبح الشعر كثقافة، هو تؤأم حقيقي لثقافة الثورة، الثورة الكاملة غير المجزأة، الثورة التي نقيمها على كل سجوننا وربما يكون الخوف هو أعلى تلك السجون، هذ الثورة التي تبقى هي وحدها السر الكامن في قوة هذا الوجود حتى وإن أدى هذا السر إلى غضب يجعل أشجارنا فينا تحترق.

وقد يكون العشق بكل ما فيه من ثورة على الساكن فينا، وبكل نار الرغبة التي ترعاه، والتي نربيها على نار توقنا وتوقدنا، يكون هذا العشق الخالد المقدس هو سيد للشعر فينا، لذا كان العشق الجارف القوي المتمرد هو الذي جعلنا مثلا نحظى بنيرودا، وبنزار قباني، وحتى بقصائد العشق التي كتبها أخناتون مصر القديمة على جدار معبده.

ولكن الثورة الكاملة على كل ما يسجن الروح الفطرية للإنسان هي أهم الحوافز التي تجعل الذات البشرية تغلي وتجعل حالتها الحسية تعلو وتتوقد، وهذا التوقد هو سيد شعلة الاكتشاف أو هو سيد الشعر، هذه الثورة الكاملة على كل ما يظلم أو يذل الذات البشرية البرية الحرة الوعرة، والتي تجد نفسها كاملة أيضا في وعورتها هذه وفي حريتها الكاملة بفرد نفسها على كل الكون.

ولأن هذا التحليق الممتع المرعب المذهل المخيف هو أغلى ما تشعر به النفس سيكون من المستحيل عليها أن تقبل بفقدانه، لذلك فهي ستكون مستعدة لأي شيء، حتى ولو كان الموت لأجله، وهذا الاستعداد لأي شيء هو استعداد كامل للكتابة كفعل إبداعي ثوري مبني على فعل الخلق الذي هو أيضا أحد أوجه فعل الثورة.

هذه العلاقة الجدلية المتبادلة بين روح الثورة في الشعر، وروح الشعر في الثورة، وروحهما معا في الحب، هذا السر الذي يحيى في مفهوم الثورات كثقافة متمردة نابعة من روح الإنسان الوثابة الرافضة للقهر والظلم، وكثقافة قادرة على عالم أنبل وأجمل، وبين الشعر كثقافة الدهشة والاكتشاف وكثقافة التحدي والقدرة على الخلق نفسها التي تمتلكها ثقافة الثورة. هذه العلاقة جعلت البشرية تحظى بشعر سيحيى طالما أن البشرية تحيى، فما تركه لوركا من نموذج صادم وصارخ لعلاقة الشعر بالثورة، ومن إرث حسي طاعن في قدرته على التأثير فينا، وتلك المرايا التي تركها لنا درويش كي نرى أنفسنا أوضح وأوجع وأصفى، والعري وعمق القهر الذي قاله أمل دنقل بكل تلك الروح التي تحفر في الروح وتفجر فيها فعل الثمرد والثورة، ولكل ما قاله وما كان سيقوله الشاعر إياد شاهين لو لم تقتله روح الثورة وروح الشعر التي تسكن روحه على يد الطاغية الذي لا يمتلك أية روح.

شاهد أيضاً

المقاومة وقداستها

عبد العزيز المصطفى تذكرُ كتبُ الأساطيرِ أنّ ملكًا استدعى أحد مستشاريه في ساعة متأخرة من …

فلنختار ظرف ومكان موتنا

عبد العزيز المصطفى خلال الحرب العالمية الثّانية كان الشغلُ الشاغل لهتلر هو كيفية القضاء على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *