الرئيسية / رأي / أحرقوا دمشق

أحرقوا دمشق

صدى الشام _ ثائر الزعزوع/

عشت في دمشق أكثر من نصف عمري بقليل، أعرفها شبراً شبراً، وكتبت عنها ولها الكثير، أعرف شوارعها وحاراتها، كنت أجوبها سيراً على قدمي لأعرفها أكثر، كنت أسير في المدينة القديمة ألتقط التفاصيل بعناية وأضعها في حقيبتي الصغيرة، أعرف الناس جميعاً هناك، ما زلت أتذكر وجوههم، وأعرف مقاهيها جميعاً، أستطيع وأنا في منفاي أن أشم روائح قهوة الصباح في مقهى النوفرة، وأستطيع وأنا في منفاي أن أتحدث لساعات عن عشقي لدمشق التي لم أحب مدينة أكثر منها، دمشق التي لم تعن لي ياسمينها وقاسيونها، لكنها عنت لي حضورها البهي، امرأة متجددة، لا تكبر، قادرة على الرقص والغناء، وعلى الصلاة خاشعة، وقادرة في كل لحظة على خلق الدهشة…

هي دمشق التي لم يبق شاعر لم يكتب قصائد في حبها، والتي لم يمر فيها موسيقي إلا وتركت آثارها في روحه. هي التي تضع التاريخ على ركبتيها، تناغيه فيطرب ويغني: يا مال الشام على بالي هواكي أحلى زمان قضيتوا معاكي…

دمشق الدافئة والحنونة، الغاضبة والمجنونة، السيدة والجارية، القديسة والعاهرة…

لكني حين أفكر فيها الآن، وأنا أرى ابنتها الفاتنة داريا وهي تتحول إلى سبية بيد الجلاد، أمحو من ذاكرتي كل ما أحمله عنها، وأرى فقط ألسنة النيران تتصاعد من مبانيها، من أسواقها، من مآذنها، من كل شيء فيها، لا أراها إلا رماداً، ولا أسمع صوت غنائها حين تظهر الشمس من وراء قاسيون، لكني أسمع أصوات غربان تنعق مبشرة بالخراب…

 

أي أحرقوا دمشق…

سأمتلك الجرأة على قول ذلك، وأنا أعرف أني سأتحمل لوماً وشتائم، وربما تكفيراً وتخويناً، لكن ماذا تفيدنا دمشق؟ وما الذي تعنيه لنا بعد أن ضاعت ثلاثة أرباع سوريا؟ هل حرصنا عليها أشد من حرصنا على مدننا وقرانا التي لم يبق فيها حجر على حجر؟ هل بلغ بنا إنكار الذات إلى الحد الذي يجعلنا نحب دمشق ونخاف عليها أكثر من حلب وحمص والرقة ودرعا وإدلب ودير الزور؟ ما الذي تعنيه لنا دمشق وهي قابعة أسيرة تحت الاحتلال الإيراني البغيض، وهل تعتقدون حقاً أن النظام سيسقط حين تسقط تلة هنا أو هضبة هناك، أم حين تستولي فصائل الثوار على قرية أو مدينة، أو حتى على حلب؟

يدرك الجميع أن النظام أعاد تجميع نفسه، واستطاع الوقوف على قدميه من جديد، كل هذا لأننا تركنا دمشق له، تركناه آمناً فيها، تجوب شوارعها أرتال الميلشيات الطائفية، وقوافل “الحجاج” الإيرانيين، والذين هم في الحقيقة عناصر مخابرات يقضمون عقاراتها وبيوتها، ويحتلون أزقتها وحواريها، ويغيرون تفاصيلها…

 

أي أحرقوا دمشق…

حولوا تلك المدينة التي أعشق إلى رماد، لعلها اعتادت البقاء جارية ونسيت أنها في يوم من الأيام كانت سيدة، تتيه بخيلاء بين المدن، حرة كريمة…

فما فائدة مدينة لا تبكي حين ترى سواها من المدن تذبح بالبراميل والصواريخ، وكل أنواع الدمار…

وما فائدة مدينة تريدنا أن نعود إليها لنكون عبيداً…

أحرقوها كي تتخلص من القذارة والنجاسة العالقة بها، حرروها من السلاسل التي تقيدها، وتمنعها من الحركة والكلام، حرروها من الجلاد وهو يستبيحها ويدخل “كل زناة الليل إلى حجرتها” حرروها من ذلك القواد الذي يستجلب الغزاة ليلطخوا شرفها…

أحرقوها…

أكاد أسمع صوتها تناديكم: أيها الجاحدون لماذا تتركونني أسيرة، ألم أكن لكم حبيبة وأماً وصديقةً، ألم أكن لكم بيتاً ووطناً؟ فلماذا تتركونني مجللة بالعار؟

أيها الجاحدون… أغيثوني.. أريد أن أسمع أصواتكم وأن أرى وجوهكم، أنا أيضاً أفتقدكم، فهؤلاء الذين يسيرون اليوم في شوارعي لا أعرفهم، لا أفهم ما يقولون، لا يغنون لي كما كنتم تغنون لي، لا يداعبون خصلات شعري، هؤلاء الغزاة يقتلونني… حرروني قبل أن تفقدوني، حرروني قبل أن يجيء يوم فلا أعرفكم ولا تعرفونني… حرروني.

حرروني، لأن قاسيون صار يتيماً من دون ضحكاتكم، ولأن الغوطة لم تعد تزهر في الربيع…

لأن بردى جف

حرروني لأن روحي قتيلة، وقلبي جريح، ولم أعد قادرة على الانتظار أكثر.

أي أحرقوا دمشق…

ولا تخافوا، فالمدن الجميلة لا تعرف كيف تموت، هي تعرف فقط كيف تنبعث من تحت الرماد، هي فقط تعرف كيف تعود صبية جميلة تختال ضاحكة وتصغي لأصوات الفتيان وهم يغازلونها، ويكتبون لها القصائد…

أنقذوا دمشق… فهنالك يكمن سر الثورة، وهنالك سوف نولد من جديد.

 

شاهد أيضاً

المقاومة وقداستها

عبد العزيز المصطفى تذكرُ كتبُ الأساطيرِ أنّ ملكًا استدعى أحد مستشاريه في ساعة متأخرة من …

فلنختار ظرف ومكان موتنا

عبد العزيز المصطفى خلال الحرب العالمية الثّانية كان الشغلُ الشاغل لهتلر هو كيفية القضاء على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *